القفز إلى المحتوى
أكاديمية ام امير ملكة السكس العربي

omamer

Administrators
  • المساهمات

    24,545
  • تاريخ الانضمام

  • تاريخ آخر زيارة

  • فازت أيام

    65

مقالات المدونات تم نشره بواسطة omamer

  1. omamer
    رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الختامي والأخير
    استجمع شتات أفكاره المتبعثرة، وأفاق من تبعات الخبر الصادم الذي أخذ معه جزءًا لا بأس به من الرغبات الانتقامية المكبوتة بداخله، نظر في غير تركيز إلى مؤشرات السيارة المركونة، كان كل شيء ساكنًا، تنفس بعمقٍ، ونفض عن كتفيه ما ظل يؤرقه طوال الساعات الماضية، ليترجل منها في تباطؤٍ، ثم سار نحو مدخل بناية عائلته، استوقفه مرة أخرى رنين هاتفه المحمول، فنظر إلى اسم المتصل، بالطبع مثل هذه الأخبار تنتشر سريعًا كما يتعكر الماء النقي ببقعة حبرٍ سوداء، أطبق على جفنيه للحظةٍ، ثم ضغط على زر الإيجاب هاتفًا في هدوءٍ:.
    -أيوه يا كرم.
    استمع إلى صوت ضحكات الطرف الآخر قبل أن يعلق في نبرة جمعت بين الهزل والتحذير:
    -إنت الوحيد اللي مسموحله يناديلي كده، ده بس عشان غلاوتك.
    صمت تميم، ولم يعقب بكلمةٍ، فتابع الهجام حديثه:
    -أنا وردني خبر إن اللي عليه العين اتكل، ملحقتش أوجب معاه.
    تنهد في بطءٍ، وأخبره بوجهٍ غير مسترخي:
    -أها، ما أنا عرفت.
    تابع الهجام كلامه قائلاً بعزم:.
      -طيب بما إن المصلحة اتفركشت، عاوز أقابلك عشان أرجعلك العربون وآ...
    قاطعه تميم رافضًا بلباقةٍ:
    -لأ خلاص، دول طلعوا من ذمتي، مش عاوزهم.
    أصر عليه في إلحاحٍ:
    -لأ ماينفعش، أنا لازمًا...
    قاطعه مرة ثانية مبديًا تصميمه:
    -مافيش داعي، كفاية إن الليلة خلصت على أد كده.
    ضحك الهجام للحظة قبل أن يقول مازحًا:
    -طول عمرك ابن أصول، وملكش في شغلنا ولا سكتنا.
    من جديد سكت تميم، لم يكن رائق المزاج ليبادله الثرثرة، ولم يكن مستريح البال ليتمازح معه، لذا بقي على سكوته الظاهري، وأصغى إليه وهو يستأنف قائلاً:
    -نتقابل بقى على خير، ولو إني عارف إن لو اتقابلنا تاني هيبقى على شر.
    أتبع ذلك ضحكة قصيرة، ليضيف مختتمًا المكالمة:
    -وماتنساس، لو عوزتني في أي وقت، إنت عارف هتوصل لكبير الهجامة إزاي.
    لفظ دفعة من الهواء، وقال مقتضبًا:
    -أكيد.
    كان آخر ما نطق به الهجام قبل أن يغلق الخط:
    -سلام يا سيد المعلمين.
    ظل تميم متجمدًا في مكانه للحيظات، مقطب الوجه، غائم النظرات، سعى خلال تلك الثواني في انتشال نفسه من غمار المشاعر الحانقة المضطرمة في عمق أعماقه، ليستعيد هدوئه، على الأقل حين يواجه زوجته التي تنتظره على أحرِ من الجمر، لتعرف ما الذي فعله لرد اعتبارها، والمدهش أنه لم يقترف أي ذنب، بل كانت عدالة السماء هي الناجزة، ونهايته كانت حقًا مروعة!
    بخطواتٍ خذلة، صعد الدرجات إلى أن وصل إلى باب المنزل، تردد لهنيهة في الدخول، فخيبة الأمل ما زالت مسيطرة عليه، لكونه لم يقتص منه بشكلٍ شخصي، استعاذ بالله من وسوسة شيطان رأسه المضل، ذاك الذي يجعله غير راضٍ عن قضاء الله، دس المفتاح في قفله، ثم أداره ليفتح الباب، الهمهمات السائدة في الصالة توقفت دفعة واحدة حينما أطل منه. ألقى تميم التحية في هدوءٍ وهو يومئ برأسه، فنهضت والدته من جلستها لتحييه في ترحابٍ ودود:.
    -وعليكم السلام يا ابني، حمدلله على سلامتك.
    وزع نظراته سريعًا على وجوه آمنة، همسة مع رضيعها النائم، والصغيرة رقية، لم تكن زوجته بينهن، مما أوغر صدره، اكتفى بمنحهن بسمة هزيلة باهتة قبل أن يركز كامل نظره على وجه والدته التي بادرت بإخباره وهي تلمس كتفه في حنوٍ:
    -دريت باللي حصل؟
    فهم ما ترمي إليه، وقال في إيجازٍ غير راغب في التحدث عن هذا اللعين:
    -أيوه.
    أضافت عليها آمنة في غير تعاطفٍ:.
    -ربنا انتقم منه، وريح الناس من شره.
    أكدت همسة كذلك وهي تنقل رضيعها لكتفها الآخر لينام عليه:
    -ده حقيقي.
    استدار برأسه ناظرًا مجددًا لوالدته، حين قالت بتعابيرٍ شبه ممتعضة:
    -ولو إن الواحد مايحبش يشمت في الموت، بس ربنا نجاك يا ابني.
    تنهد بعمقٍ، وتساءل وهو يجول بنظراته في أرجاء الصالة:
    -فين مراتي؟
    أجابته والدته موضحة في حزنٍ:
    -أعدة جوا في أوضتك، مرضتش تخرج منها.
    انقلبت ملامحه ضيقًا على حالها، وخاطبها في وجومٍ:.
    -أنا هاروحلها.
    ربتت ونيسة على ظهره قائلة:
    -خد راحتك.
    بدأ في السير مبتعدًا عنهن؛ لكن اعترضت طريقه الصغيرة رقية، استوقفته بجذبه من معصمه، ونادته بصوتٍ حزين:
    -عمو تميم!
    جثا على ركبته ليبدو في مستوى نظرها، وقال بشيءٍ من الرقة:
    -أيوه يا حبيبتي.
    ارتمت في أحضانه تطلب منه ببراءةٍ:
    -ماتسبش فيرو لوحدها، هي زعلانة إنك بعيد عنها.
    ضمها إليه، خانقًا تلك الغصة المؤلمة الموجودة في حلقه، لفظ كتلة حارقة من الهواء من رئتيه، وسحب شهيقًا عميقًا يثبط به ما يجتاحه من مشاعرٍ مهتاجة، لو كان غيره من يمر بتلك الاختبارات العصيبة، دون وجود رابطٍ أو ضابط، لخرج الطابع البري الهمجي عن السيطرة، ووصلت الأزمات الحرجة إلى أقصاها. جاهد تميم ليحافظ على هدوئه الزائف، ثم مسح على ظهر الصغيرة بحنو أبوي قبل أن يؤكد لها بصدقٍ:
    -أنا مقدرش أسيبها.
    مرغت رقية رأسها في كتفه، وقالت في محبةٍ صافية:
    -أنا بحبك أوي.
    في براءتها الكثير من السلوى، والتطييب للأوجاع غير المرئية، رفع ذراعه للأعلى، ووضع راحته على رأسها ليمسد على جديلة شعرها قائلاً:
    -وأنا كمان.
    تراجع عنها، واستلها من أحضانه ليعيدها للخلف خطوة وهو ممسك بها من جانبي ذراعها، تمكن من النظر إلى وجهها البريء، ثم أخبرها بلهجةٍ اتخذت طابعًا آمرًا:
    -خليكي مع عمتك، واسمعي كلامها.
    هزت رأسها في طاعة مرددة:.
      -ماشي.
    منحها قبلة صغيرة على وجنتها قبل أن يودعها:
    -مع السلامة.
    استقام واقفًا وهو يراها ترحل عائدة إلى البقية المتواجدة بالصالة، من زاويته نظر إلى آمنة التي شبكت يدها في كف الصغيرة، وقالت مستأذنة بالذهاب:
    -يدوب احنا نقوم.
    ألحت عليها ونيسة لتبقى، فقالت في جديةٍ:
    -خليكم أعدين شوية، ده احنا متونسين بيكم.
    اعتذرت منها بحرجٍ:
    -معلش، كفاية دوشناكم معانا طول اليوم، وإنتو ملكوش ذنب.
    ردت عليها في عتابٍ رقيق:.
    -احنا عيلة واحدة يا آمنة، عيب ماتقوليش كده، واللي يمسكم يمسنا.
    ظهرت ابتسامة صغيرة على وجهها وهي تشكرها:
    -ربنا يخليكم لينا.
    تنحنحت ونيسة متسائلة بعد لحظةٍ من التردد:
    -لو إني محروجة أسألك، بس إنتو رايحين الجنازة والعزا؟
    فاجأها السؤال كما باغته وهو يقف في الركن الخلفي بعيدًا عن مدى بصرهن، كيف يمكن لشخص طبيعي أن يتجاوز عن سيئات آخر بهذه السرعة لمجرد هلاكه؟ من المستحيل التعايش مع الواقع الأليم بمثل تلك السلاسة. تطلعت آمنة بتحيرٍ إلى ابنتها، لتتولى الأخيرة الرد بدبلوماسية:
    -بيتهيألي معدتش ينفع.
    استحسن تميم رأيها، وظل متابعًا للنقاش الدائر، حيث اقترحت ونيسة بتعقلٍ:.
    -الأسلم إن كل واحد يفضل بعيد عن الطرف التاني، مهما كان النفوس هتفضل شايلة ومعبية.
    وافقتها همسة الرأي، وأردفت قائلة:
    -فعلاً، للأسف صعب الكل ينسى بالساهل.
    وضعت آمنة يدها على كتف ابنتها تستحثها على التحرك معها، لتتكلم بعد ذلك في تهذيبٍ:
    -ربنا يقدم اللي فيه الخير، عن إذنكم.
    تحركت ونيسة في تؤدة لتوصلهن إلى الباب قائلة:
    -شرفتونا.
    زفر تميم مرة ثانية، وواصل مشيه للداخل؛ لكن هذه المرة استوقفه جده الذي على ما يبدو كان ينتظره منذ برهةٍ، خطا ناحيته في تخاذلٍ لم يستطع إخفائه عنه، والأخير استقبله بكل اهتمامٍ، طالبًا منه:
    -قبل ما تخش لمراتك عاوزك شوية.
    كان على وشك الرفض، فخرج صوته مضطربًا متذمرًا:
    -جدي آ...
    تمسك بطلبه قائلاً بنبرة مالت للحزم:
    -تعالى، وبلاش مكابرة.
    في أعماقه المعتمة، كان تميم بحاجةٍ ماسة للضوء الذي يخرجه من ظلمته، إلى بهجة الحياة وضيائها، وربما في استرساله مع جده السبيل إلى هذا السلام المفقود.
    ظلت نظراته هائمة، تائهة، تقف عند حافة ذكريات ما قبل موت فضل، هذا الحد الفاصل ما بين الانسياق وراء دوافع الثأر والانتقام، وبين ترك الماضي جانبًا، والتطلع للأمام. أفرغ تميم مكنونات صدره له، عله يمنحه النصيحة السديدة، بعد أن تخبط في صراعات رأسه، انتبه إلى صوت جده الذي ما زال يخاطبه بودٍ، كأنما يحاول إرشاده للطريق الذي كاد يحيد عنه تحت وطأة الضغوط:
    -حكم ربنا كان أسرع ونافذ.
    ربما هدأته كلماته الإيمانية؛ لكنها لم تشفِ بعد غليله المتقد، استمر سلطان في إقناعه بلهجته الهادئة:
    -يمكن في موته رحمة ليك، ونجاة من شر مكونتش عارفه.
    احتج في تذمرٍ:
    -بس حق مراتي، صعبان عليا إني مجبتوش.
    أخبره مبتسمًا في رضا:
    -ومين قال إنه مجاش؟ ده جالها من رب السماوات والأرض، عاوز ترضية أكتر من كده إيه؟
    أطرق رأسه في ترددٍ، فأكمل سلطان بنفس الوتيرة الهادئة:
    -سبحانه وتعالى ليه حكمة في كل شيء.
    انتقل الجد من أريكته ليجلس هذه المرة على طرف السرير بجواره، حاوط حفيده من كتفيه بذراعه، وراح يخبره في نوعٍ من النصيحة:
    -ارمي الماضي بكل اللي فيه، وركز في اللي معاك، وبص للي جاي...
    سكت للحظة مستحضرًا رؤياه الطيبة، وقال بغير تفسيرٍ:
    -عطايا ربك مابتنتهيش، ليها وقت وميعاد.
    نظر إليه تميم بعينين تحتجزان الدموع، رمش بجفنيه ليطرد العالق في أهدابه، البقاء جامدًا لم يعد مجديًا، وقد ضاق ذرعًا بمشاعره التي تخنقه، تحرر من قيوده معترفًا في ألمٍ:
    -قلبي موجوع يا جدي.
    أمثاله ممن تربوا على القيم الأصيلة، كاحترام الشرف وتقديسه، كان من غير اليسير عليهم التعايش مع بعض الوقائع الصادمة ببساطةٍ، وكأنها لم تكن، خاصة حينما يتم الخوض في الأعراض، وهو ذاق ويلاته عندما دافع عن شقيقته قديمًا، وعاود الكرة مع زوجته الآن. لم يكن ليهنأ أبدًا ويستعيد سكينته إن لم يخرج ما يثقل صدره، ربت الجد على جانب ذراعه قائلاً في سلاسةٍ:
    -والدوا موجود عند مراتك.
    من بين دموعه التي كفكفها نظر إليه متحيرًا، فتابع مبتسمًا بثقة:
    -روحلها، وخليك وياها، ساعتها هتلاقي الراحة...
    وقبل أن يتردد في الاستجابة لأمره، أخبره بلهجةٍ لم تخلِ من السخرية المريرة:
    -اسمع كلام واحد رجل برا ورجل جوا.
    انقبض قلبه لمجرد ترديده هذه العبارة الدارجة، وراح يقول في جزعٍ:
    -ربنا يديك طولة العمر.
    هز الجد رأسه بهزات خفيفة، وقال في حبورٍ:
    -ربنا يرزقك بكل ما تتمنى.
    بحرصٍ شديد، فتح الباب المغلق، ليلج إلى الداخل، قاصدًا ألا يثير بتواجده أدنى إزعاج، فلا تستيقظ وتفزع لرؤيته بهذه الحالة الفوضوية. تسلل تميم على أطراف أصابعه، ودنا من سريره بعد أن أوصد الباب من خلفه، توقف عند حافة الفراش ليتأملها، يكاد يقسم أنه عند التطلع إليها تشيع في روحه كل السكينة المنشودة، نزع عنه قميصه المتعرق، وركع على ركبتيه ليبدو قريبًا من وجهها النائم، أمعن النظر في قسماتها المبللة ببقايا دمعاتها، متذكرًا توسلها الشديد له لئلا يرحل ويتركها سعيًا وراء انتقامه، آلمته الذكرى، وحز ذلك في قلبه، أقبل برأسه عليها، ثم همس لها معتذرًا بأنفاسٍ لا تزال ضائقة:.
    -حقك عليا، أنا السبب في دموعك دي.
    رفع يده ليتلمس في رقةٍ وجنتها، وتابع في ألمٍ:
    -أصعب حاجة مريت بيها معاكي إني أحس إني ممكن أخسرك.
    أغمض عينيه ليقضي على آخر ذرات غضبه مستحضرًا نصائح جده الغالية له، عاود فتحهما، وتأملها مُجَّدِدًا ميثاق الحب معها:
    -ربنا يقدرني وأعوضك عن كل أذى شوفتيه في حياتك.
    وكأن في صوته إشارات تنبيه لعقلها الغافل، فأعادها إلى يقظتها بشكلٍ جزئي، فتحت عينيها بثقلٍ، ونادته في صوتٍ متحشرج:
    - تميم!
    ابتسم لها رغم الألم، وقال:
    -أنا هنا.
    رجته في وهنٍ قبل أن يطغى سلطان النوم عليها، معتقدة أنها لا تزال غارقة في هلاوسها:
    -ماتبعدش تاني.
    مسح على خدها بإبهامه، ووعدها:
    -حاضر.
    استند بيده على الطرف لينهض واقفًا من جلسته، ثم اقترب من دولابه ليبدل ثيابه بأخرى نظيفة، بعد أن يغتسل ويمحو آثار هذا اليوم المشؤوم، ربما بدأ بغير خير؛ لكنه لن يتركه ينتهي ويمضي سوى بكل الخير.
    حين استفاقت من سباتها المرهق، ورأته ممددًا إلى جوارها لم تصدق عينيها، فركتهما، ودعكتهما، ورفرفت بهما، لتتأكد أنها لم تعد غارقة في غمرة أحلامها الوهمية، التفتت كليًا بجسدها ناحيته، وجلست مربعة ساقيها، وأراحت ذقنها على راحتيها المضمومتين معًا، اعتلى شفتاها ابتسامة عظيمة، كأنها زهرة أشرقت، وأينعت، وحان وقت قطفها. فتح تميم عينيه متفاجئًا بها على تلك الوضعية، سألها مندهشًا وهو ينظر إليها بنصف عين:.
    -في حاجة حصلت؟
    تنهدت مطولاً في راحة، كأنما خرجت لتوها من نوبة حب عنيفة، وقالت نافية، وتلك النظرة المسترخية تحتل وجهها:
    -لأ، بس أنا مش مصدقة إنك موجود هنا.
    استخدم تميم مرفقيه، ليتزحف للخلف، ثم استند بظهره على عارضة الفراش متطلعًا إليها بشوقٍ، فواصلت الكلام في نبرة إلى حدٍ ما بدت متأثرة:
    -عارف أكتر حاجة خوفت منها إيه؟
    سألها بنظرة مستفهمة من عينيه دون أن ينطق، فأجابت في تخوفٍ وقد تراخى ذراعاها:.
    -إني أخسر السند في حياتي، وخصوصًا إني، من بعد بابا الله يرحمه، مكانش في حد سند ليا، زي ما إنت على طول معايا.
    امتدت يده لتمسك بكفها، ضم أناملها بأصابعه، وضغط عليها في رفقٍ، قبل أن تنفرج شفتاه لتجدد اعترافه:
    -أنا بحبك.
    اختفى الحزن من على صفحة وجهها، وبدأت تفك وثاق ساقيها لتستعد للنهوض وهي تخبره:
    -وأنا بعشقك.
    لم يتركها تميم ترحل عنه، بل جذبها إلى أحضانه في جذبة قوية غير قاسية، وحركها في خفةٍ لتغدو أسفل منه، تعلقت بعنقه، وطالعته بهيامٍ، فأطبق على كلها بكله، وراح يغرقها بعشرات القبل التواقة المتلهفة، مستثيرًا فيها حواسها، وموقظًا بها مشاعر اللهفة والرغبة، أطلق في خضم قبلاته الخبيرة طاقة فياضة من الحنان، وأعطته من بين تأويهاتها لمحاتٍ من السحر الآخاذ، وحينما انتفضت خلاياها، وانتعشت كورقة شجرٍ أصابها الندى، منحته نفسها كما لم تمنحه من قبل، كأنما تدمغ حبها ببصمة عشقه للأبد.
    بعد مرور شهرين،.
    تتابعت دقات قلبها، وانتابتها قشعريرة غريبة وهي لا تزال جالسة في هذا المكان، مترقبة صدور نتائج التحاليل الطبية، كان من الصعب عليها إخفاء الأمر على زوجها؛ لكنها أرادت التأكد أولاً، لتحظى بمتعة رؤية تأثير الخبر عليه، الاختبار المنزلي للحمل الذي أجرته أتى ببشارة محمودة، تلون الشريطان؛ لكن ما زالت الشكوك تساورها، فقد قرأت عن مثل تلك الأخطاء واردة الحدوث، لهذا أرادت قطع الشك باليقين بتحليل الدم، انتظرت بأعصابٍ متوترة خروج الطبيبة من الداخل، قفزت واقفة من مقعدها المعدني لتقترب منها متسائلة في تلهفٍ:.
    -إيه الأخبار؟
    رسمت الطبيبة بسمة لطيفة على ثغرها وهي تجاوبها:
    -ألف مبروك، حامل.
    هتفت في سرورٍ شديد:
    -الحمدلله، إحساسي كان صح.
    أكملت الطبيبة موضحة في نبرة شبه جادة:
    -إنتي في الشهر الأول لسه، في دكتور معين بتتابعي معاه، ولا تحبي نرشحلك حد؟
    ردت بنفس الصوت الفرح المليء بالحماس:
    -مش فارقة، المهم إن ربنا كرمني في الآخر.
    مدت الطبيبة ملفها الورقي ناحيتها، وقالت في تهذيبٍ:
    -مبروك يا مدام، وإن شاءالله يكمل على خير.
    أخذته منها مرددة في امتنانٍ:
    -يا رب، شكرًا لذوقك، تعبتك معايا.
    هزت رأسها قائلة بلباقةٍ وهي تهم بالتحرك بعيدًا عنها:
    -ده شغلي يا فندم.
    غادرت فيروزة المعمل المتخصص وهي في قمة سعادتها، ظل لسانها يردد شاكرًا:
    -يا ما إنت كريم يا رب.
    طوت الملف الطبي، ووضعته في حقيبة يدها بعد أن استلت منها هاتفها المحمول، بنفس القدر المرتفع من الحماس اتصلت بزوجها، ترقبت رده، وقالت في عجالةٍ ما إن سمعت صوته:
    -ألو، أيوه يا تميم.
    سألها برسميةٍ محسوسة في نبرته:
    -خير يا أبلة؟
    سألته بحاجبين مضمومين:
    -هو في حد جمبك ولا إيه؟
    حمحم مجيبًا إياها بنبرة موحية:
    -معلمين السوق، ما إنتي فاهمة.
    تقوست شفتاها عن بسمةٍ مرحة وهي تفسر مقصده:
    -أيوه تقولي أبلة قصاد الغرب، وتدلعني واحنا سوا.
    جاءها رده مؤيدًا:
    -بالظبط كده.
    بلعت ريقها، وعادت لذروة حماسها وهي تخبره:
    -طيب أنا عاوزة أشوفك دلوقتي حالاً.
    سألها في توجسٍ:
    -في حاجة حصلت ولا إيه؟
    راوغته في الرد، وقالت في استمتاعٍ:
    -هتعرف لما أقابلك.
    علق عليها بعزمٍ:
    -طيب، أنا جايلك المحل.
    في التو خاطبته بجديةٍ لتزيد من تحيره:
    -لأ، أنا مش هناك، تعلالي عند أول مرة اتقابلنا فيها عند الكورنيش.
    سكت للحظة كتعبيرٍ عن استغرابه، قبل أن يهتف في جزعٍ:
    -أوعي تقوليلي إنك ناوية تقفي بعربية أكل تاني هناك، ما أنا عارف دماغك ساعات كده تشطح بحاجات.
    عبست لكلامه، وعلقت في تحفزٍ:.
    -وإيه العيب في كده؟ ما دلوقتي في بنات كتير واقفين هناك وآ...
    قاطعها قائلاً في حزمٍ:
    -يا ستي أفتحلك مطعم بحاله، بس اتجدعني إنتي وظبطي نفسك في الأكل.
    احتجت على اتهامه المبطن بعدم قدرتها على الطهي، وصاحت مدافعة عن نفسها:
    -على فكرة أنا طبيخي تحفة، أجدع من أشطرها شيف.
    استطاعت أن تسمع صوت ضحكته المرحة وهو يؤكد:
    -ومعدتي تشهد بكده.
    لم تخبت ابتسامتها النضرة من على محياها وهي تلح عليه:.
    -طب يالا تعالى متتأخرش، هستناك هناك.
    قال في طاعةٍ أراحتها:
    -حاضر، مسافة الطريق.
    كل ما مرت به من ذكريات مصيرية بدأ من هنا، من عند هذه البقعة، هنا شهدت ميلاد الصراع، واحتدام الأزمات، وأيضًا هنا بذاتها ستشهد على توطيد العلاقات. راحت فيروزة تتطلع لحركة المارة في وسط النهار، وصدرها مبتهج، وقلبها في أوج فرحته، ترقبت مجيء زوجها، لمحته قادمًا من على بعدٍ وهو شبه متعجل في خطواته، جلس إلى جوارها على القطع الحجرية قائلاً بتذمرٍ، وبصوتٍ أقرب للهاث:
    -مش كنت قابلتك في المحل وخلاص.
    ردت في وداعةٍ:
    -هنا أحسن.
    التقط أنفاسه، وتكلم في غير تمهيدٍ:
    -صحيح كنت عاوز أعرفك إن حسني اتطس حكم، المحامي كلمني، وعرفني بده، بعد البلاغات اللي كانت متقدمة فيه في قضايا النصب والهجرة غير الشرعية، ده غير طبعًا القضية الأساسية بتاعته.
    بنفس الصوت الهادئ علقت:
    -ربنا يبعد أذاه عننا.
    ثم رمقته بتلك النظرة الدافئة الحنون، وسألته في رقةٍ، بما بدا سخيفًا له، ومناقضًا لاستدعائه الهام على وجه السرعة:.
    -إيه رأيك في الجو؟
    بادلها نظرة مزعوجة، وواصل تذمره:
    -حر، والشمس حامية، وبأدعي ربنا الشتا يجي...
    ضحكت ملء شدقيها، حتى فاضت الدموع السعيدة من عينيها، نظر إليها مدهوشًا، وسألها بتبرمٍ:
    -هو إنتي جيباني على ملى وشي عشان كده؟
    هزت رأسها نافية، فقال بغيظٍ:
    -أومال إيه؟
    من بين ضحكاتها القصيرة أجابته بنزقٍ:
    - تميم، أنا حامل.
    على ما يبدو لم ينتبه لما اعترفت به في التو، فقال في انزعاجٍ:
    -وإيه يعني إنك...
    برقت عيناه في ذهولٍ صادم، وحملق فيها بدهشةٍ أكبر، قبل أن ينطق بتلعثمٍ:
    -إيه؟ بتقولي إيه؟
    خفت ضحكاتها للغاية؛ لكن بقيت ابتسامتها تنير وجهها، وكررت على مسامعه من جديد، ضاغطة على كل حرف في كلمتها الأخيرة:
    -أنا حامل.
    هب واقفًا من موضعه، وصاح محذرًا بسبابته المرفوعة أمام وجهها، ويده الأخرى تمر أعلى رأسه في ارتباكٍ متعاظم:
    -بالله العظيم، ده مش هزار يا فيروزة.
    هزت رأسها نافية:
    -لا والله...
    ثم مدت يدها داخل حقيبتها لتخرج الملف الطبي وهي تؤكد على صدق عبارتها:
    -والتحاليل معايا أهي.
    تناول الأوراق منها، ونظر لها بتحيرٍ، قبل أن يغلق الملف قائلاً في لهفةٍ ما زالت تتزايد مع كل لحظة:
    -أنا مش فاهم حاجة، بس إنتي حامل حامل؟!
    استرخت في جلستها، وأجابت بثقة:
    -أه والله.
    كالصبية الصغار دار تميم حول نفسه وهو يرسم تلك الابتسامة البلهاء على وجهه، توقف عن الدوران ليخاطبها في حماسةٍ كبيرة:.
    -اقسم بالله لولا إننا في الشارع، وممكن نتاخد فيها على القسم، لكنت آ...
    فهمت تلميحه العابث، فتورد وجهها خجلاً، وحذرته بعد نحنحة خفيفة:
    -احم، عيب.
    عاد ليجلس إلى جوارها، وردد في ذهول مسرور:
    -أنا هابقى أب، الله!
    سألته فيروزة في فضولٍ:
    -يا ترى عاوز ولد ولا بنت؟
    جاوبها في نفس الدفقة من الحماس المسيطرة عليه كليًا:
    -أي حاجة، كله من عند ربنا حلو، بس تقومي بالسلامة الأول.
    علقت ذراعها في ذراعه، واستندت برأسها على كتفه؛ لكن ما لبث أن أبعدتها لتنظر إليه في صدمة عندما أخبرها بجديةٍ تامة:
    -بس لو ولد هنسميه علي.
    رددت متسائلة بنفس التعابير المصدومة:
    -على اسم بابا؟
    أومأ برأسه مؤكدًا في تصميمٍ عجيب، وهي ترى الحب جليًا في عينيه:
    -أيوه، خلينا نحيي ذكراه من تاني.
    لفت ذراعها الآخر حول ذراعه، وزاد تمسكها به، ثم أسبلت عينيها الرقراقتين بدمعاتها المتأثرة ناحيته، قبل أن تبادر بتكرار اعترافها المفضل لديه:
    -أنا بحبك أوي.
    شملها بنظرته الدافئة، الغارقة ولهًا في محراب عشقها، ثم قال بنوعٍ من التباهي وهو يمسح بيده على كفها:
    -وأنا حَبيتك الأول.
    الأبوة مكتسبة، لا يتم الشعور بها، إلا حين يحمل الأب وليده بين ذراعيه؛ لكن معه كان الوضع مختلفًا، منذ اللحظة التي علم بها بمسألة حملها، وهو يشعر بمدى مسئوليته تجاه ما تحتويه أحشائها، وحين أتت البشارة بأنها أنثى، ابتهج، واختال بعطية المولى له، كان تميم ينتمي لذلك النوع النادر من البشر الذي يقدر كل ما هو مؤنث، ويُعلي من شأنه، ويا ليت مثله الكثيرين!
    ظل الخوف مستبدًا به، لا يغيب عنه للحظةٍ، وهو يجول في الردهة جيئة وذهابًا منتظرًا إبلاغه بالأخبار السارة، لا يعرف كيف انقضت أشهر الحمل عليه وهو ينتظر بلهفةٍ صغير تواق للعيد مرور الأيام ليحمل بين ذراعيه قطعة منها. دنا تميم من جده الجالس على المقعد المعدني، وقف قبالته، ثم سأله في توترٍ:
    -دعيتلها يا جدي ولا لأ؟
    أجابه سلطان وهو يضم كفيه معًا ليستند بهما على رأس عكازه:
    -مابطلش يا ابني.
    التفت محدقًا في وجه والدته الجالسة إلى جواره، وسألها بنفس النبرة المتوترة:
    -وإنتي يامه؟
    أخبرته بقليلٍ من الحزم:
    -كلنا بندعيلها يا حبيبي، بس اركز إنت، وأقف على حيلك.
    تحرك مجددًا في تلبكٍ وهو يخاطبها:
    -مش قادر، أعصابي تعبانة.
    ردت عليه والدته وهي تبتسم:
    -ربنا يكرمها، وتقوم بالسلامة.
    سألها في تحيرٍ:
    -تفتكر هتطلع شبه أمها ولا شبهي؟ أنا عاوزها نسخة من أمها.
    مازحه جده متسائلاً:
    -وتطلع عينك برضوه؟
    قال في غير اكتراثٍ وهو ينظر في اتجاهه:
    -مش مهم، بس كفاية إنها تبقى حتة مني ومنها.
    سأله بدير كنوعٍ من المشاركة في الحوار:
    -كلمت أمها؟
    استدار تجاهه، وأجابه:
    -أيوه، وهي جاية في الطريق.
    أضافت ونيسة قائلة بعد أن وضعت حقيبتها في حجرها:
    -الحمدلله إننا كنا حواليها وقت ما الطلق جالها، وكويس إنكم سايبين شنطتها عندنا تحسبًا لو ده حصل.
    علق عليها تميم بملامحٍ شبه مزعوجة:
    -مكونتش هسامح نفسي وأنا مش معاها.
    نظر له بدير في استهجانٍ، وقال بوجهٍ منقلب، قاصدًا التلميح بشيءٍ بعينه:
    -هو إنت سايبها تاخد نفسها أصلاً؟
    تنحنح معقبًا عليه وقد فهم عبارته المبطنة، المشيرة إلى ملازمته لها على مدار الساعة:
    -خلاص يا حاج، مش وقته!
    سألته ونيسة في فضولٍ:
    -فكرتوا هتسموها إيه؟
    دون مماطلة أجابها متحمسًا:
    -أيوه، اتفقت خلاص مع فيروزة يبقى اسمها دُرة.
    رمقته ونيسة بنظرة ملأتها الذهول قبل أن تردد:
    - دُرة؟
    توجس من ردة فعلها، وسألها:.
    -وحش ولا إيه؟
    هزت كتفيها، وأجابته بعفويةٍ:
    -لأ غريب شويتين، بس طالما عاجبكم يبقى خلاص.
    رد عليها الجد مستبشرًا:
    -كله جميل، ماشاءالله، ربنا يجعلها دُرة غالية في حياتك.
    هتف مؤمنًا في تفاؤلٍ:
    -يا رب يا جدي، يا رب.
    مضت السنوات، وتعاقبت، وجاءت اللحظة التي تولى فيها مسئوليته الأخرى تجاه من اعتبرها –مجازًا- ابنته البكرية، كانت لحظة فارقة له كأبٍ، جلس في تفاخر متباهيًا بما أصبحت عليه رقية الآن؛ شابة طموحة، ناجحة، تدعو للفخر والاعتزاز، رغم أنها تجاوزت فقط العشرين من عمرها، مرر أنظاره على الجالسين في صالون منزله، وحانت منه نظرة سريعة نحو الحائط، حيث تستقر عدة إطارات لصور فوتوغرافية خاصة بجده الراحل، ووالديه، كم اشتاق لهم! وكم بدا أقرب بالشبه إلى جده وقد تخطى منتصف الأربعينات بعامين! نفض لمحات الحزن من رأسه ليرسم ابتسامة لبقة وقورة على محياه، واستطرد مخاطبًا رفيقه دياب في جدية:.
    -ده ابني طبعًا.
    التفت ناظرًا إلى زوجته الجالسة في مواجهته، وتعمدت اختيار هذا المكان تحديدًا لتتمكن من التواصل معه بصريًا دون الحاجة للنطق، من نظراتها المسلطة عليه، كاد يسمع احتجاجًا صامتًا، فقال في تشددٍ غريب:
    -بس زي ما إنت عارف بنتنا غالية، واللي عاوزها لازم يطلع عينه عقبال ما يطولها.
    ثم رمق فيروزة بتلك النظرة المفيدة في مغزاها بأنه فعل ما أمرته به سابقًا، بينما علق دياب في ترحيبٍ وهو يتابع بتعجبٍ ما يدور بينهما من نظراتٍ غريبة:
    -واحنا جاهزين لأي حاجة، مش هنلاقي أغلى منها نطلبها ل يحيى.
    تنحنح تميم مضيفًا بنزعة من العنجهية:
    -طيب أدونا فرصة نسأل عليه، معلش دي الأصول.
    رد عليه رفيقه مداعبًا في مرحٍ:
    -اسأل، وجاوب، وخش الامتحان العملي والنظري كمان، المهم في النهاية توافقوا.
    نهضت فيروزة واقفة، وحطت على تعابيرها تلك العلامات الجادة، ثم نادت على زوجها في تحفظٍ:
    - تميم، عاوزاك شوية.
    نهض بدوره، وقال متصنعًا الابتسام:
    -حاضر..
    جال بنظراته على الحاضرين جميعًا وهو يستأذن منهم:
    -عن إذنكم.
    استوقفه منذر عند عتبة باب الغرفة ماسكًا إياه من ذراعه، وطلب منه بصوتٍ خفيض:
    -بالراحة علينا شوية يا صاحبي، ده احنا عيلة واحدة.
    خاطبه في خفوتٍ، وبعبارة موحية، مُبديًا قلة حيلته:.
    -وأعمل إيه مع الحكومة؟ ما إنت شايف بنفسك.
    أخفى ضحكته المستمتعة وهو يرد بربتهٍ خفيفة على كتفه:
    -الله يعينك، بس أكيد ليك طريقتك معاها.
    التمعت عينا تميم بنظرة غريبة، وأخبره بنوعٍ من الزهو:
    -هخليها تلين.
    حافظ منذر على ابتسامته المرحة، وقال مشجعًا إياه:
    -مستنين يا بطل.
    قبل أن يغادر تميم الغرفة وجه أمره لابنته:
    -شوفي يا دُرة ضيوفنا يشربوا إيه.
    هزت رأسها في طاعة رغم تعبيرات وجهها المزعوجة، سارت عائدة إلى المطبخ وهي تبرطم بضيقٍ:
    -كل حاجة دُرة! أومال علي و أنس فين؟ ده بابا قال إنهم يساعدوني.
    اتجهت أنظارها لهذا الفتى الواقف بجوار الثلاجة ممسكًا بكوبٍ من الماء يرتشف منه، عندما نطق بنزقٍ:
    -أنا موجود في الخدمة.
    رمقته بنظرة ضيقة مزعوجة من وجوده، ظنت أنه يهزأ بها، فقالت في لهجة آمرة مترفعة، وهي تشبك ساعديها أمام صدرها:
    -طب تعالى شيل الصنية.
    أسند زين الكوب على المسند الرخامي، وتقدم ناحيتها ببدلته الكحلية الأنيقة متسائلاً في عتابٍ لطيف:
    -مافيش لو سمحت؟ أي حاجة ذوق منك
    ما كان منها إلا أن ردت بسخافةٍ:
    -خلاص، بلاش، ولا الحوجة لحد.
    أنهت جملتها وهي تحمل الصينية الأخرى المملوءة مسبقًا بالمشروب الغازي، حملتها إلى الخارج وسط ذهول زين الذي راح يردد مدهوشًا من تصرفها الفظ:
    -إيه ده؟ هي داخلة شمال فيا كده ليه؟!
    اندفاعها المتعصب إلى داخل غرفة نومهما، يعني أنها غير راضية عما يحدث، وهناك ما يزعجها بشكلٍ ما. من معاشرته الطويلة لها، بات تميم يفهم تصرفاتها دون الحاجة للتكهن، تبعها في هدوءٍ، وأغلق الباب ورائهما، ثم ركز كامل بصره عليها وهي متأنقة في بدلتها البيضاء، لونه المفضل على الدوام، كانت محتشمة، وقورة؛ لكنها ما زالت تحتفظ بسماتها الشقية التي تغويه بنظرة أو ابتسامة متدللة. قاوم جموح خيالاته في هذه اللحظة الجادة حين هتفت في تزمتٍ:.
    -مش معنى إنه صاحبك توافق على طول، لأ لازم تشد عليه، زي ما بتشد على علي و أنس.
    هز رأسه معقبًا وهو يدس يديه في جيبي بنطاله الأسود:
    -حاضر يا فيروزة.
    رأت تراخي رابطة عنقه، فتحركت في تلقائية نحوه، ثم وضعت يديها على ياقة قميصه الرمادي لتضبطها، قبل أن تنتقل نحو رابطة عنقه وتُعيد عقدها في مهارة واحترافية وهي ما تزال تكلمه:
    -وماتنساش مافيش خروج ولا مقابلات لواحدهم من غير ما يكون في كتب كتاب.
    وضع تميم إصبعيه بين ياقة قميصه والفراغ الضيق الملامس لعنقه محاولاً خلق مسافة أكبر للتنفس، ثم أخبرها ساخرًا:
    -ماشي، هنفذ الوصايا العشرة معاهم، هعمل حظر تجول كمان، إيه رأيك؟
    حدجته بنظرة نارية قبل أن تهتف في حدةٍ، ودون أن ترتفع نبرتها:
    -إنت بتتريق؟ بكرة نشوف هتعمل إيه مع دُرة؟
    رفع حاجبه قائلاً في تحدٍ:
    -ومين قالك إني هفرط فيها بالساهل؟
    سألته في لمحةٍ من السخرية:
    -هتسيبها تعنس جمبك؟
    التوى ثغره ببسمة غير مبالية وهو يجاوبها:
    -أه تعنس وتشيب كمان، دي الغالية على قلبي، النفس اللي بخاف عليه يروح في لحظة.
    شعرت بالغيرة من وصفه المشوق، وقالت في عبوسٍ وهي توليه ظهرها:
    -أكتر من أمها طبعًا.
    وقف خلفها واضعًا يديه على كتفيها، دلكهما في رفقٍ وهو يهتف بالقرب من أذنها:
    -مين قال؟
    حاولت إزاحة يده عن كتفها قائلة بنفس الوجوم المغتاظ:
    -حاسب.
    مال برأسه نحو منحنى عنقها المتواري أسفل حجابها، ودفن رأسه فيه، كأنما يريد سماع نبضاتها المتسارعة، والشعور بدفقة متجددة من دفئها المغري، اضطربت أنفاسها وهو يرتفع بشفتيه متجهًا إلى صدغها هامسًا لها:
    -ده إنتي قلبي.
    قاومت خبرته المحنكة في إغوائها واستدراجها نحو فخه بنجاحٍ، واستلت نفسها منه، لتستدير ناظرة إليه وهي تقول بوجهٍ اختلجته حمرة طفيفة:
    -اضحك عليا زي تملي.
    قبض على معصميها، فاحتدت نظراتها بشكلٍ كبير، حاولت التحرر من قيده المتحكم بها؛ لكنه بادر وجذبها إليه، أسرها في حضنه، وحاوطها بذراعيه، لتلتصق أكثر بصدره، تلوت بجسدها محاولة المناص منه وهي تهتف في تذمرٍ:
    -إيه اللي إنت بتعمله ده؟ مش وقته خالص.
    قال بنظرة تعكس شقاوته:
    -وإيه اللي يمنع؟
    اتسعت عيناها في استنكارٍ وهي تعلل له:
    -إنت بتهزر؟ الناس قاعدة برا.
    أخبرها في تلذذ وابتسامته العابثة تتراقص على ثغره:.
    -في تكة أطردهم، وأفركش الجوازة، المهم إنك معايا.
    انزوى ما بين حاجبيها معترضًا على تصرفه:
    -مش للدرجادي، احنا كبرنا على الحاجات دي.
    هتف في تسليةٍ:
    -الحاجات دي عندي مالهاش سن، وبعدين كل ما تكبري حبة في قلبي تزيدي محبة.
    ضحكت في ميوعة، وعلقت:
    -بكاش...
    ثم تصنعت الجدية وأمرته:
    -حاسب، وخلينا نطلع نشوف ضيوفك.
    تحركت يداه في تمهلٍ على ظهرها تمسده، رمقها بنظرة شقية عما مضى وهو يسألها في توقٍ:.
    -بأقولك إيه، مش ناوية في المناسبة السعيدة دي ترقصيلي مرة كده من نفسي؟!
    تشوق لسماع ردها، فرفضت في جدية واضحة:
    -قولتلك مابعرفش.
    منحها تلك النظرة العطوف المتذللة وهو يلح عليها:
    -حاولي طيب، دي من أحلامي، وأنا استنيت كتير.
    صمتت لهنيهة قبل أن تقول في عبثيةٍ؛ كأنما تريد استفزازه وإغاظته:
    -خلاص هابقى أرقص في فرح كوكي.
    شدد من ضمه لها كأنما يعاقبها على اقتراحها النزق، قبل أن تنخفض إحدى يداه وتمنحها ربتة تأديبية على ردفيها، جعلتها تشهق وهو يعنفها:
    -لا والله، يعني يوم ما تشطحي تنطحي؟ بناقص منها رقصة.
    استخدمت كل قوتها لتدفعه من صدره، فنجحت في التخلص من قيده، أو هكذا ظنت حين تراخت قبضتيه عنها، لتعتقد أن لها الغَلَبة؛ لكن ما لبث أن أعادها إلى أحضانه بسحبة قوية، فتأوهت مقاومة إياه، سرعان ما انخفضت إلى استسلامٍ مطيع وهو يلامس بشفتيه بشرة وجهها، سرت فيها نفس القشعريرة الخجلة اللطيفة؛ وكأنها لا تزال حديثة العهد بمشاعر الحب العفيفة، قبل وجنتها بلطفٍ، محفزًا الكامن من حواسها، قبل أن تتحرك شفتاه للجانب لتلامس زاوية ثغرها، حينئذ انفلتت منها آنة خافتة متأثرة، لفح بشرتها بحرارة قربه، ثم همس لها مكررًا اعترافه؛ بصوت خطف الفؤادِ قبل الأنفاس:.
    -قلبي محبش إلا طاووس واحد بس..
    أغمضت عينيها مستمتعة بهذه الأحاسيس المرهفة التي تتدفق عليها وتغرقها في نبعها، زاد خفقان قلبها مع إكماله لجملته المميزة:
    -هو إنتي!
    ليتبع ذلك قبلة عميقة، كانت ولا تزال تمنحها في كل مرة يتقاربا فيها، هذا الشعور الواثق بالكمال وتمام الجمال.
  2. omamer
    رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الختامي
    استجمع شتات أفكاره المتبعثرة، وأفاق من تبعات الخبر الصادم الذي أخذ معه جزءًا لا بأس به من الرغبات الانتقامية المكبوتة بداخله، نظر في غير تركيز إلى مؤشرات السيارة المركونة، كان كل شيء ساكنًا، تنفس بعمقٍ، ونفض عن كتفيه ما ظل يؤرقه طوال الساعات الماضية، ليترجل منها في تباطؤٍ، ثم سار نحو مدخل بناية عائلته، استوقفه مرة أخرى رنين هاتفه المحمول، فنظر إلى اسم المتصل، بالطبع مثل هذه الأخبار تنتشر سريعًا كما يتعكر الماء النقي ببقعة حبرٍ سوداء، أطبق على جفنيه للحظةٍ، ثم ضغط على زر الإيجاب هاتفًا في هدوءٍ:.
    -أيوه يا كرم.
    استمع إلى صوت ضحكات الطرف الآخر قبل أن يعلق في نبرة جمعت بين الهزل والتحذير:
    -إنت الوحيد اللي مسموحله يناديلي كده، ده بس عشان غلاوتك.
    صمت تميم، ولم يعقب بكلمةٍ، فتابع الهجام حديثه:
    -أنا وردني خبر إن اللي عليه العين اتكل، ملحقتش أوجب معاه.
    تنهد في بطءٍ، وأخبره بوجهٍ غير مسترخي:
    -أها، ما أنا عرفت.
    تابع الهجام كلامه قائلاً بعزم:.
      -طيب بما إن المصلحة اتفركشت، عاوز أقابلك عشان أرجعلك العربون وآ...
    قاطعه تميم رافضًا بلباقةٍ:
    -لأ خلاص، دول طلعوا من ذمتي، مش عاوزهم.
    أصر عليه في إلحاحٍ:
    -لأ ماينفعش، أنا لازمًا...
    قاطعه مرة ثانية مبديًا تصميمه:
    -مافيش داعي، كفاية إن الليلة خلصت على أد كده.
    ضحك الهجام للحظة قبل أن يقول مازحًا:
    -طول عمرك ابن أصول، وملكش في شغلنا ولا سكتنا.
    من جديد سكت تميم، لم يكن رائق المزاج ليبادله الثرثرة، ولم يكن مستريح البال ليتمازح معه، لذا بقي على سكوته الظاهري، وأصغى إليه وهو يستأنف قائلاً:
    -نتقابل بقى على خير، ولو إني عارف إن لو اتقابلنا تاني هيبقى على شر.
    أتبع ذلك ضحكة قصيرة، ليضيف مختتمًا المكالمة:
    -وماتنساس، لو عوزتني في أي وقت، إنت عارف هتوصل لكبير الهجامة إزاي.
    لفظ دفعة من الهواء، وقال مقتضبًا:
    -أكيد.
    كان آخر ما نطق به الهجام قبل أن يغلق الخط:
    -سلام يا سيد المعلمين.
    ظل تميم متجمدًا في مكانه للحيظات، مقطب الوجه، غائم النظرات، سعى خلال تلك الثواني في انتشال نفسه من غمار المشاعر الحانقة المضطرمة في عمق أعماقه، ليستعيد هدوئه، على الأقل حين يواجه زوجته التي تنتظره على أحرِ من الجمر، لتعرف ما الذي فعله لرد اعتبارها، والمدهش أنه لم يقترف أي ذنب، بل كانت عدالة السماء هي الناجزة، ونهايته كانت حقًا مروعة!
    بخطواتٍ خذلة، صعد الدرجات إلى أن وصل إلى باب المنزل، تردد لهنيهة في الدخول، فخيبة الأمل ما زالت مسيطرة عليه، لكونه لم يقتص منه بشكلٍ شخصي، استعاذ بالله من وسوسة شيطان رأسه المضل، ذاك الذي يجعله غير راضٍ عن قضاء الله، دس المفتاح في قفله، ثم أداره ليفتح الباب، الهمهمات السائدة في الصالة توقفت دفعة واحدة حينما أطل منه. ألقى تميم التحية في هدوءٍ وهو يومئ برأسه، فنهضت والدته من جلستها لتحييه في ترحابٍ ودود:.
    -وعليكم السلام يا ابني، حمدلله على سلامتك.
    وزع نظراته سريعًا على وجوه آمنة، همسة مع رضيعها النائم، والصغيرة رقية، لم تكن زوجته بينهن، مما أوغر صدره، اكتفى بمنحهن بسمة هزيلة باهتة قبل أن يركز كامل نظره على وجه والدته التي بادرت بإخباره وهي تلمس كتفه في حنوٍ:
    -دريت باللي حصل؟
    فهم ما ترمي إليه، وقال في إيجازٍ غير راغب في التحدث عن هذا اللعين:
    -أيوه.
    أضافت عليها آمنة في غير تعاطفٍ:.
    -ربنا انتقم منه، وريح الناس من شره.
    أكدت همسة كذلك وهي تنقل رضيعها لكتفها الآخر لينام عليه:
    -ده حقيقي.
    استدار برأسه ناظرًا مجددًا لوالدته، حين قالت بتعابيرٍ شبه ممتعضة:
    -ولو إن الواحد مايحبش يشمت في الموت، بس ربنا نجاك يا ابني.
    تنهد بعمقٍ، وتساءل وهو يجول بنظراته في أرجاء الصالة:
    -فين مراتي؟
    أجابته والدته موضحة في حزنٍ:
    -أعدة جوا في أوضتك، مرضتش تخرج منها.
    انقلبت ملامحه ضيقًا على حالها، وخاطبها في وجومٍ:.
    -أنا هاروحلها.
    ربتت ونيسة على ظهره قائلة:
    -خد راحتك.
    بدأ في السير مبتعدًا عنهن؛ لكن اعترضت طريقه الصغيرة رقية، استوقفته بجذبه من معصمه، ونادته بصوتٍ حزين:
    -عمو تميم!
    جثا على ركبته ليبدو في مستوى نظرها، وقال بشيءٍ من الرقة:
    -أيوه يا حبيبتي.
    ارتمت في أحضانه تطلب منه ببراءةٍ:
    -ماتسبش فيرو لوحدها، هي زعلانة إنك بعيد عنها.
    ضمها إليه، خانقًا تلك الغصة المؤلمة الموجودة في حلقه، لفظ كتلة حارقة من الهواء من رئتيه، وسحب شهيقًا عميقًا يثبط به ما يجتاحه من مشاعرٍ مهتاجة، لو كان غيره من يمر بتلك الاختبارات العصيبة، دون وجود رابطٍ أو ضابط، لخرج الطابع البري الهمجي عن السيطرة، ووصلت الأزمات الحرجة إلى أقصاها. جاهد تميم ليحافظ على هدوئه الزائف، ثم مسح على ظهر الصغيرة بحنو أبوي قبل أن يؤكد لها بصدقٍ:
    -أنا مقدرش أسيبها.
    مرغت رقية رأسها في كتفه، وقالت في محبةٍ صافية:
    -أنا بحبك أوي.
    في براءتها الكثير من السلوى، والتطييب للأوجاع غير المرئية، رفع ذراعه للأعلى، ووضع راحته على رأسها ليمسد على جديلة شعرها قائلاً:
    -وأنا كمان.
    تراجع عنها، واستلها من أحضانه ليعيدها للخلف خطوة وهو ممسك بها من جانبي ذراعها، تمكن من النظر إلى وجهها البريء، ثم أخبرها بلهجةٍ اتخذت طابعًا آمرًا:
    -خليكي مع عمتك، واسمعي كلامها.
    هزت رأسها في طاعة مرددة:.
      -ماشي.
    منحها قبلة صغيرة على وجنتها قبل أن يودعها:
    -مع السلامة.
    استقام واقفًا وهو يراها ترحل عائدة إلى البقية المتواجدة بالصالة، من زاويته نظر إلى آمنة التي شبكت يدها في كف الصغيرة، وقالت مستأذنة بالذهاب:
    -يدوب احنا نقوم.
    ألحت عليها ونيسة لتبقى، فقالت في جديةٍ:
    -خليكم أعدين شوية، ده احنا متونسين بيكم.
    اعتذرت منها بحرجٍ:
    -معلش، كفاية دوشناكم معانا طول اليوم، وإنتو ملكوش ذنب.
    ردت عليها في عتابٍ رقيق:.
    -احنا عيلة واحدة يا آمنة، عيب ماتقوليش كده، واللي يمسكم يمسنا.
    ظهرت ابتسامة صغيرة على وجهها وهي تشكرها:
    -ربنا يخليكم لينا.
    تنحنحت ونيسة متسائلة بعد لحظةٍ من التردد:
    -لو إني محروجة أسألك، بس إنتو رايحين الجنازة والعزا؟
    فاجأها السؤال كما باغته وهو يقف في الركن الخلفي بعيدًا عن مدى بصرهن، كيف يمكن لشخص طبيعي أن يتجاوز عن سيئات آخر بهذه السرعة لمجرد هلاكه؟ من المستحيل التعايش مع الواقع الأليم بمثل تلك السلاسة. تطلعت آمنة بتحيرٍ إلى ابنتها، لتتولى الأخيرة الرد بدبلوماسية:
    -بيتهيألي معدتش ينفع.
    استحسن تميم رأيها، وظل متابعًا للنقاش الدائر، حيث اقترحت ونيسة بتعقلٍ:.
    -الأسلم إن كل واحد يفضل بعيد عن الطرف التاني، مهما كان النفوس هتفضل شايلة ومعبية.
    وافقتها همسة الرأي، وأردفت قائلة:
    -فعلاً، للأسف صعب الكل ينسى بالساهل.
    وضعت آمنة يدها على كتف ابنتها تستحثها على التحرك معها، لتتكلم بعد ذلك في تهذيبٍ:
    -ربنا يقدم اللي فيه الخير، عن إذنكم.
    تحركت ونيسة في تؤدة لتوصلهن إلى الباب قائلة:
    -شرفتونا.
    زفر تميم مرة ثانية، وواصل مشيه للداخل؛ لكن هذه المرة استوقفه جده الذي على ما يبدو كان ينتظره منذ برهةٍ، خطا ناحيته في تخاذلٍ لم يستطع إخفائه عنه، والأخير استقبله بكل اهتمامٍ، طالبًا منه:
    -قبل ما تخش لمراتك عاوزك شوية.
    كان على وشك الرفض، فخرج صوته مضطربًا متذمرًا:
    -جدي آ...
    تمسك بطلبه قائلاً بنبرة مالت للحزم:
    -تعالى، وبلاش مكابرة.
    في أعماقه المعتمة، كان تميم بحاجةٍ ماسة للضوء الذي يخرجه من ظلمته، إلى بهجة الحياة وضيائها، وربما في استرساله مع جده السبيل إلى هذا السلام المفقود.
    ظلت نظراته هائمة، تائهة، تقف عند حافة ذكريات ما قبل موت فضل، هذا الحد الفاصل ما بين الانسياق وراء دوافع الثأر والانتقام، وبين ترك الماضي جانبًا، والتطلع للأمام. أفرغ تميم مكنونات صدره له، عله يمنحه النصيحة السديدة، بعد أن تخبط في صراعات رأسه، انتبه إلى صوت جده الذي ما زال يخاطبه بودٍ، كأنما يحاول إرشاده للطريق الذي كاد يحيد عنه تحت وطأة الضغوط:
    -حكم ربنا كان أسرع ونافذ.
    ربما هدأته كلماته الإيمانية؛ لكنها لم تشفِ بعد غليله المتقد، استمر سلطان في إقناعه بلهجته الهادئة:
    -يمكن في موته رحمة ليك، ونجاة من شر مكونتش عارفه.
    احتج في تذمرٍ:
    -بس حق مراتي، صعبان عليا إني مجبتوش.
    أخبره مبتسمًا في رضا:
    -ومين قال إنه مجاش؟ ده جالها من رب السماوات والأرض، عاوز ترضية أكتر من كده إيه؟
    أطرق رأسه في ترددٍ، فأكمل سلطان بنفس الوتيرة الهادئة:
    -سبحانه وتعالى ليه حكمة في كل شيء.
    انتقل الجد من أريكته ليجلس هذه المرة على طرف السرير بجواره، حاوط حفيده من كتفيه بذراعه، وراح يخبره في نوعٍ من النصيحة:
    -ارمي الماضي بكل اللي فيه، وركز في اللي معاك، وبص للي جاي...
    سكت للحظة مستحضرًا رؤياه الطيبة، وقال بغير تفسيرٍ:
    -عطايا ربك مابتنتهيش، ليها وقت وميعاد.
    نظر إليه تميم بعينين تحتجزان الدموع، رمش بجفنيه ليطرد العالق في أهدابه، البقاء جامدًا لم يعد مجديًا، وقد ضاق ذرعًا بمشاعره التي تخنقه، تحرر من قيوده معترفًا في ألمٍ:
    -قلبي موجوع يا جدي.
    أمثاله ممن تربوا على القيم الأصيلة، كاحترام الشرف وتقديسه، كان من غير اليسير عليهم التعايش مع بعض الوقائع الصادمة ببساطةٍ، وكأنها لم تكن، خاصة حينما يتم الخوض في الأعراض، وهو ذاق ويلاته عندما دافع عن شقيقته قديمًا، وعاود الكرة مع زوجته الآن. لم يكن ليهنأ أبدًا ويستعيد سكينته إن لم يخرج ما يثقل صدره، ربت الجد على جانب ذراعه قائلاً في سلاسةٍ:
    -والدوا موجود عند مراتك.
    من بين دموعه التي كفكفها نظر إليه متحيرًا، فتابع مبتسمًا بثقة:
    -روحلها، وخليك وياها، ساعتها هتلاقي الراحة...
    وقبل أن يتردد في الاستجابة لأمره، أخبره بلهجةٍ لم تخلِ من السخرية المريرة:
    -اسمع كلام واحد رجل برا ورجل جوا.
    انقبض قلبه لمجرد ترديده هذه العبارة الدارجة، وراح يقول في جزعٍ:
    -ربنا يديك طولة العمر.
    هز الجد رأسه بهزات خفيفة، وقال في حبورٍ:
    -ربنا يرزقك بكل ما تتمنى.
    بحرصٍ شديد، فتح الباب المغلق، ليلج إلى الداخل، قاصدًا ألا يثير بتواجده أدنى إزعاج، فلا تستيقظ وتفزع لرؤيته بهذه الحالة الفوضوية. تسلل تميم على أطراف أصابعه، ودنا من سريره بعد أن أوصد الباب من خلفه، توقف عند حافة الفراش ليتأملها، يكاد يقسم أنه عند التطلع إليها تشيع في روحه كل السكينة المنشودة، نزع عنه قميصه المتعرق، وركع على ركبتيه ليبدو قريبًا من وجهها النائم، أمعن النظر في قسماتها المبللة ببقايا دمعاتها، متذكرًا توسلها الشديد له لئلا يرحل ويتركها سعيًا وراء انتقامه، آلمته الذكرى، وحز ذلك في قلبه، أقبل برأسه عليها، ثم همس لها معتذرًا بأنفاسٍ لا تزال ضائقة:.
    -حقك عليا، أنا السبب في دموعك دي.
    رفع يده ليتلمس في رقةٍ وجنتها، وتابع في ألمٍ:
    -أصعب حاجة مريت بيها معاكي إني أحس إني ممكن أخسرك.
    أغمض عينيه ليقضي على آخر ذرات غضبه مستحضرًا نصائح جده الغالية له، عاود فتحهما، وتأملها مُجَّدِدًا ميثاق الحب معها:
    -ربنا يقدرني وأعوضك عن كل أذى شوفتيه في حياتك.
    وكأن في صوته إشارات تنبيه لعقلها الغافل، فأعادها إلى يقظتها بشكلٍ جزئي، فتحت عينيها بثقلٍ، ونادته في صوتٍ متحشرج:
    - تميم!
    ابتسم لها رغم الألم، وقال:
    -أنا هنا.
    رجته في وهنٍ قبل أن يطغى سلطان النوم عليها، معتقدة أنها لا تزال غارقة في هلاوسها:
    -ماتبعدش تاني.
    مسح على خدها بإبهامه، ووعدها:
    -حاضر.
    استند بيده على الطرف لينهض واقفًا من جلسته، ثم اقترب من دولابه ليبدل ثيابه بأخرى نظيفة، بعد أن يغتسل ويمحو آثار هذا اليوم المشؤوم، ربما بدأ بغير خير؛ لكنه لن يتركه ينتهي ويمضي سوى بكل الخير.
    حين استفاقت من سباتها المرهق، ورأته ممددًا إلى جوارها لم تصدق عينيها، فركتهما، ودعكتهما، ورفرفت بهما، لتتأكد أنها لم تعد غارقة في غمرة أحلامها الوهمية، التفتت كليًا بجسدها ناحيته، وجلست مربعة ساقيها، وأراحت ذقنها على راحتيها المضمومتين معًا، اعتلى شفتاها ابتسامة عظيمة، كأنها زهرة أشرقت، وأينعت، وحان وقت قطفها. فتح تميم عينيه متفاجئًا بها على تلك الوضعية، سألها مندهشًا وهو ينظر إليها بنصف عين:.
    -في حاجة حصلت؟
    تنهدت مطولاً في راحة، كأنما خرجت لتوها من نوبة حب عنيفة، وقالت نافية، وتلك النظرة المسترخية تحتل وجهها:
    -لأ، بس أنا مش مصدقة إنك موجود هنا.
    استخدم تميم مرفقيه، ليتزحف للخلف، ثم استند بظهره على عارضة الفراش متطلعًا إليها بشوقٍ، فواصلت الكلام في نبرة إلى حدٍ ما بدت متأثرة:
    -عارف أكتر حاجة خوفت منها إيه؟
    سألها بنظرة مستفهمة من عينيه دون أن ينطق، فأجابت في تخوفٍ وقد تراخى ذراعاها:.
    -إني أخسر السند في حياتي، وخصوصًا إني، من بعد بابا الله يرحمه، مكانش في حد سند ليا، زي ما إنت على طول معايا.
    امتدت يده لتمسك بكفها، ضم أناملها بأصابعه، وضغط عليها في رفقٍ، قبل أن تنفرج شفتاه لتجدد اعترافه:
    -أنا بحبك.
    اختفى الحزن من على صفحة وجهها، وبدأت تفك وثاق ساقيها لتستعد للنهوض وهي تخبره:
    -وأنا بعشقك.
    لم يتركها تميم ترحل عنه، بل جذبها إلى أحضانه في جذبة قوية غير قاسية، وحركها في خفةٍ لتغدو أسفل منه، تعلقت بعنقه، وطالعته بهيامٍ، فأطبق على كلها بكله، وراح يغرقها بعشرات القبل التواقة المتلهفة، مستثيرًا فيها حواسها، وموقظًا بها مشاعر اللهفة والرغبة، أطلق في خضم قبلاته الخبيرة طاقة فياضة من الحنان، وأعطته من بين تأويهاتها لمحاتٍ من السحر الآخاذ، وحينما انتفضت خلاياها، وانتعشت كورقة شجرٍ أصابها الندى، منحته نفسها كما لم تمنحه من قبل، كأنما تدمغ حبها ببصمة عشقه للأبد.
    بعد مرور شهرين،.
    تتابعت دقات قلبها، وانتابتها قشعريرة غريبة وهي لا تزال جالسة في هذا المكان، مترقبة صدور نتائج التحاليل الطبية، كان من الصعب عليها إخفاء الأمر على زوجها؛ لكنها أرادت التأكد أولاً، لتحظى بمتعة رؤية تأثير الخبر عليه، الاختبار المنزلي للحمل الذي أجرته أتى ببشارة محمودة، تلون الشريطان؛ لكن ما زالت الشكوك تساورها، فقد قرأت عن مثل تلك الأخطاء واردة الحدوث، لهذا أرادت قطع الشك باليقين بتحليل الدم، انتظرت بأعصابٍ متوترة خروج الطبيبة من الداخل، قفزت واقفة من مقعدها المعدني لتقترب منها متسائلة في تلهفٍ:.
    -إيه الأخبار؟
    رسمت الطبيبة بسمة لطيفة على ثغرها وهي تجاوبها:
    -ألف مبروك، حامل.
    هتفت في سرورٍ شديد:
    -الحمدلله، إحساسي كان صح.
    أكملت الطبيبة موضحة في نبرة شبه جادة:
    -إنتي في الشهر الأول لسه، في دكتور معين بتتابعي معاه، ولا تحبي نرشحلك حد؟
    ردت بنفس الصوت الفرح المليء بالحماس:
    -مش فارقة، المهم إن ربنا كرمني في الآخر.
    مدت الطبيبة ملفها الورقي ناحيتها، وقالت في تهذيبٍ:
    -مبروك يا مدام، وإن شاءالله يكمل على خير.
    أخذته منها مرددة في امتنانٍ:
    -يا رب، شكرًا لذوقك، تعبتك معايا.
    هزت رأسها قائلة بلباقةٍ وهي تهم بالتحرك بعيدًا عنها:
    -ده شغلي يا فندم.
    غادرت فيروزة المعمل المتخصص وهي في قمة سعادتها، ظل لسانها يردد شاكرًا:
    -يا ما إنت كريم يا رب.
    طوت الملف الطبي، ووضعته في حقيبة يدها بعد أن استلت منها هاتفها المحمول، بنفس القدر المرتفع من الحماس اتصلت بزوجها، ترقبت رده، وقالت في عجالةٍ ما إن سمعت صوته:
    -ألو، أيوه يا تميم.
    سألها برسميةٍ محسوسة في نبرته:
    -خير يا أبلة؟
    سألته بحاجبين مضمومين:
    -هو في حد جمبك ولا إيه؟
    حمحم مجيبًا إياها بنبرة موحية:
    -معلمين السوق، ما إنتي فاهمة.
    تقوست شفتاها عن بسمةٍ مرحة وهي تفسر مقصده:
    -أيوه تقولي أبلة قصاد الغرب، وتدلعني واحنا سوا.
    جاءها رده مؤيدًا:
    -بالظبط كده.
    بلعت ريقها، وعادت لذروة حماسها وهي تخبره:
    -طيب أنا عاوزة أشوفك دلوقتي حالاً.
    سألها في توجسٍ:
    -في حاجة حصلت ولا إيه؟
    راوغته في الرد، وقالت في استمتاعٍ:
    -هتعرف لما أقابلك.
    علق عليها بعزمٍ:
    -طيب، أنا جايلك المحل.
    في التو خاطبته بجديةٍ لتزيد من تحيره:
    -لأ، أنا مش هناك، تعلالي عند أول مرة اتقابلنا فيها عند الكورنيش.
    سكت للحظة كتعبيرٍ عن استغرابه، قبل أن يهتف في جزعٍ:
    -أوعي تقوليلي إنك ناوية تقفي بعربية أكل تاني هناك، ما أنا عارف دماغك ساعات كده تشطح بحاجات.
    عبست لكلامه، وعلقت في تحفزٍ:.
    -وإيه العيب في كده؟ ما دلوقتي في بنات كتير واقفين هناك وآ...
    قاطعها قائلاً في حزمٍ:
    -يا ستي أفتحلك مطعم بحاله، بس اتجدعني إنتي وظبطي نفسك في الأكل.
    احتجت على اتهامه المبطن بعدم قدرتها على الطهي، وصاحت مدافعة عن نفسها:
    -على فكرة أنا طبيخي تحفة، أجدع من أشطرها شيف.
    استطاعت أن تسمع صوت ضحكته المرحة وهو يؤكد:
    -ومعدتي تشهد بكده.
    لم تخبت ابتسامتها النضرة من على محياها وهي تلح عليه:.
    -طب يالا تعالى متتأخرش، هستناك هناك.
    قال في طاعةٍ أراحتها:
    -حاضر، مسافة الطريق.
    كل ما مرت به من ذكريات مصيرية بدأ من هنا، من عند هذه البقعة، هنا شهدت ميلاد الصراع، واحتدام الأزمات، وأيضًا هنا بذاتها ستشهد على توطيد العلاقات. راحت فيروزة تتطلع لحركة المارة في وسط النهار، وصدرها مبتهج، وقلبها في أوج فرحته، ترقبت مجيء زوجها، لمحته قادمًا من على بعدٍ وهو شبه متعجل في خطواته، جلس إلى جوارها على القطع الحجرية قائلاً بتذمرٍ، وبصوتٍ أقرب للهاث:
    -مش كنت قابلتك في المحل وخلاص.
    ردت في وداعةٍ:
    -هنا أحسن.
    التقط أنفاسه، وتكلم في غير تمهيدٍ:
    -صحيح كنت عاوز أعرفك إن حسني اتطس حكم، المحامي كلمني، وعرفني بده، بعد البلاغات اللي كانت متقدمة فيه في قضايا النصب والهجرة غير الشرعية، ده غير طبعًا القضية الأساسية بتاعته.
    بنفس الصوت الهادئ علقت:
    -ربنا يبعد أذاه عننا.
    ثم رمقته بتلك النظرة الدافئة الحنون، وسألته في رقةٍ، بما بدا سخيفًا له، ومناقضًا لاستدعائه الهام على وجه السرعة:.
    -إيه رأيك في الجو؟
    بادلها نظرة مزعوجة، وواصل تذمره:
    -حر، والشمس حامية، وبأدعي ربنا الشتا يجي...
    ضحكت ملء شدقيها، حتى فاضت الدموع السعيدة من عينيها، نظر إليها مدهوشًا، وسألها بتبرمٍ:
    -هو إنتي جيباني على ملى وشي عشان كده؟
    هزت رأسها نافية، فقال بغيظٍ:
    -أومال إيه؟
    من بين ضحكاتها القصيرة أجابته بنزقٍ:
    - تميم، أنا حامل.
    على ما يبدو لم ينتبه لما اعترفت به في التو، فقال في انزعاجٍ:
    -وإيه يعني إنك...
    برقت عيناه في ذهولٍ صادم، وحملق فيها بدهشةٍ أكبر، قبل أن ينطق بتلعثمٍ:
    -إيه؟ بتقولي إيه؟
    خفت ضحكاتها للغاية؛ لكن بقيت ابتسامتها تنير وجهها، وكررت على مسامعه من جديد، ضاغطة على كل حرف في كلمتها الأخيرة:
    -أنا حامل.
    هب واقفًا من موضعه، وصاح محذرًا بسبابته المرفوعة أمام وجهها، ويده الأخرى تمر أعلى رأسه في ارتباكٍ متعاظم:
    -بالله العظيم، ده مش هزار يا فيروزة.
    هزت رأسها نافية:
    -لا والله...
    ثم مدت يدها داخل حقيبتها لتخرج الملف الطبي وهي تؤكد على صدق عبارتها:
    -والتحاليل معايا أهي.
    تناول الأوراق منها، ونظر لها بتحيرٍ، قبل أن يغلق الملف قائلاً في لهفةٍ ما زالت تتزايد مع كل لحظة:
    -أنا مش فاهم حاجة، بس إنتي حامل حامل؟!
    استرخت في جلستها، وأجابت بثقة:
    -أه والله.
    كالصبية الصغار دار تميم حول نفسه وهو يرسم تلك الابتسامة البلهاء على وجهه، توقف عن الدوران ليخاطبها في حماسةٍ كبيرة:.
    -اقسم بالله لولا إننا في الشارع، وممكن نتاخد فيها على القسم، لكنت آ...
    فهمت تلميحه العابث، فتورد وجهها خجلاً، وحذرته بعد نحنحة خفيفة:
    -احم، عيب.
    عاد ليجلس إلى جوارها، وردد في ذهول مسرور:
    -أنا هابقى أب، الله!
    سألته فيروزة في فضولٍ:
    -يا ترى عاوز ولد ولا بنت؟
    جاوبها في نفس الدفقة من الحماس المسيطرة عليه كليًا:
    -أي حاجة، كله من عند ربنا حلو، بس تقومي بالسلامة الأول.
    علقت ذراعها في ذراعه، واستندت برأسها على كتفه؛ لكن ما لبث أن أبعدتها لتنظر إليه في صدمة عندما أخبرها بجديةٍ تامة:
    -بس لو ولد هنسميه علي.
    رددت متسائلة بنفس التعابير المصدومة:
    -على اسم بابا؟
    أومأ برأسه مؤكدًا في تصميمٍ عجيب، وهي ترى الحب جليًا في عينيه:
    -أيوه، خلينا نحيي ذكراه من تاني.
    لفت ذراعها الآخر حول ذراعه، وزاد تمسكها به، ثم أسبلت عينيها الرقراقتين بدمعاتها المتأثرة ناحيته، قبل أن تبادر بتكرار اعترافها المفضل لديه:
    -أنا بحبك أوي.
    شملها بنظرته الدافئة، الغارقة ولهًا في محراب عشقها، ثم قال بنوعٍ من التباهي وهو يمسح بيده على كفها:
    -وأنا حَبيتك الأول.
    الأبوة مكتسبة، لا يتم الشعور بها، إلا حين يحمل الأب وليده بين ذراعيه؛ لكن معه كان الوضع مختلفًا، منذ اللحظة التي علم بها بمسألة حملها، وهو يشعر بمدى مسئوليته تجاه ما تحتويه أحشائها، وحين أتت البشارة بأنها أنثى، ابتهج، واختال بعطية المولى له، كان تميم ينتمي لذلك النوع النادر من البشر الذي يقدر كل ما هو مؤنث، ويُعلي من شأنه، ويا ليت مثله الكثيرين!
    ظل الخوف مستبدًا به، لا يغيب عنه للحظةٍ، وهو يجول في الردهة جيئة وذهابًا منتظرًا إبلاغه بالأخبار السارة، لا يعرف كيف انقضت أشهر الحمل عليه وهو ينتظر بلهفةٍ صغير تواق للعيد مرور الأيام ليحمل بين ذراعيه قطعة منها. دنا تميم من جده الجالس على المقعد المعدني، وقف قبالته، ثم سأله في توترٍ:
    -دعيتلها يا جدي ولا لأ؟
    أجابه سلطان وهو يضم كفيه معًا ليستند بهما على رأس عكازه:
    -مابطلش يا ابني.
    التفت محدقًا في وجه والدته الجالسة إلى جواره، وسألها بنفس النبرة المتوترة:
    -وإنتي يامه؟
    أخبرته بقليلٍ من الحزم:
    -كلنا بندعيلها يا حبيبي، بس اركز إنت، وأقف على حيلك.
    تحرك مجددًا في تلبكٍ وهو يخاطبها:
    -مش قادر، أعصابي تعبانة.
    ردت عليه والدته وهي تبتسم:
    -ربنا يكرمها، وتقوم بالسلامة.
    سألها في تحيرٍ:
    -تفتكر هتطلع شبه أمها ولا شبهي؟ أنا عاوزها نسخة من أمها.
    مازحه جده متسائلاً:
    -وتطلع عينك برضوه؟
    قال في غير اكتراثٍ وهو ينظر في اتجاهه:
    -مش مهم، بس كفاية إنها تبقى حتة مني ومنها.
    سأله بدير كنوعٍ من المشاركة في الحوار:
    -كلمت أمها؟
    استدار تجاهه، وأجابه:
    -أيوه، وهي جاية في الطريق.
    أضافت ونيسة قائلة بعد أن وضعت حقيبتها في حجرها:
    -الحمدلله إننا كنا حواليها وقت ما الطلق جالها، وكويس إنكم سايبين شنطتها عندنا تحسبًا لو ده حصل.
    علق عليها تميم بملامحٍ شبه مزعوجة:
    -مكونتش هسامح نفسي وأنا مش معاها.
    نظر له بدير في استهجانٍ، وقال بوجهٍ منقلب، قاصدًا التلميح بشيءٍ بعينه:
    -هو إنت سايبها تاخد نفسها أصلاً؟
    تنحنح معقبًا عليه وقد فهم عبارته المبطنة، المشيرة إلى ملازمته لها على مدار الساعة:
    -خلاص يا حاج، مش وقته!
    سألته ونيسة في فضولٍ:
    -فكرتوا هتسموها إيه؟
    دون مماطلة أجابها متحمسًا:
    -أيوه، اتفقت خلاص مع فيروزة يبقى اسمها دُرة.
    رمقته ونيسة بنظرة ملأتها الذهول قبل أن تردد:
    - دُرة؟
    توجس من ردة فعلها، وسألها:.
    -وحش ولا إيه؟
    هزت كتفيها، وأجابته بعفويةٍ:
    -لأ غريب شويتين، بس طالما عاجبكم يبقى خلاص.
    رد عليها الجد مستبشرًا:
    -كله جميل، ماشاءالله، ربنا يجعلها دُرة غالية في حياتك.
    هتف مؤمنًا في تفاؤلٍ:
    -يا رب يا جدي، يا رب.
    مضت السنوات، وتعاقبت، وجاءت اللحظة التي تولى فيها مسئوليته الأخرى تجاه من اعتبرها –مجازًا- ابنته البكرية، كانت لحظة فارقة له كأبٍ، جلس في تفاخر متباهيًا بما أصبحت عليه رقية الآن؛ شابة طموحة، ناجحة، تدعو للفخر والاعتزاز، رغم أنها تجاوزت فقط العشرين من عمرها، مرر أنظاره على الجالسين في صالون منزله، وحانت منه نظرة سريعة نحو الحائط، حيث تستقر عدة إطارات لصور فوتوغرافية خاصة بجده الراحل، ووالديه، كم اشتاق لهم! وكم بدا أقرب بالشبه إلى جده وقد تخطى منتصف الأربعينات بعامين! نفض لمحات الحزن من رأسه ليرسم ابتسامة لبقة وقورة على محياه، واستطرد مخاطبًا رفيقه دياب في جدية:.
    -ده ابني طبعًا.
    التفت ناظرًا إلى زوجته الجالسة في مواجهته، وتعمدت اختيار هذا المكان تحديدًا لتتمكن من التواصل معه بصريًا دون الحاجة للنطق، من نظراتها المسلطة عليه، كاد يسمع احتجاجًا صامتًا، فقال في تشددٍ غريب:
    -بس زي ما إنت عارف بنتنا غالية، واللي عاوزها لازم يطلع عينه عقبال ما يطولها.
    ثم رمق فيروزة بتلك النظرة المفيدة في مغزاها بأنه فعل ما أمرته به سابقًا، بينما علق دياب في ترحيبٍ وهو يتابع بتعجبٍ ما يدور بينهما من نظراتٍ غريبة:
    -واحنا جاهزين لأي حاجة، مش هنلاقي أغلى منها نطلبها ل يحيى.
    تنحنح تميم مضيفًا بنزعة من العنجهية:
    -طيب أدونا فرصة نسأل عليه، معلش دي الأصول.
    رد عليه رفيقه مداعبًا في مرحٍ:
    -اسأل، وجاوب، وخش الامتحان العملي والنظري كمان، المهم في النهاية توافقوا.
    نهضت فيروزة واقفة، وحطت على تعابيرها تلك العلامات الجادة، ثم نادت على زوجها في تحفظٍ:
    - تميم، عاوزاك شوية.
    نهض بدوره، وقال متصنعًا الابتسام:
    -حاضر..
    جال بنظراته على الحاضرين جميعًا وهو يستأذن منهم:
    -عن إذنكم.
    استوقفه منذر عند عتبة باب الغرفة ماسكًا إياه من ذراعه، وطلب منه بصوتٍ خفيض:
    -بالراحة علينا شوية يا صاحبي، ده احنا عيلة واحدة.
    خاطبه في خفوتٍ، وبعبارة موحية، مُبديًا قلة حيلته:.
    -وأعمل إيه مع الحكومة؟ ما إنت شايف بنفسك.
    أخفى ضحكته المستمتعة وهو يرد بربتهٍ خفيفة على كتفه:
    -الله يعينك، بس أكيد ليك طريقتك معاها.
    التمعت عينا تميم بنظرة غريبة، وأخبره بنوعٍ من الزهو:
    -هخليها تلين.
    حافظ منذر على ابتسامته المرحة، وقال مشجعًا إياه:
    -مستنين يا بطل.
    قبل أن يغادر تميم الغرفة وجه أمره لابنته:
    -شوفي يا دُرة ضيوفنا يشربوا إيه.
    هزت رأسها في طاعة رغم تعبيرات وجهها المزعوجة، سارت عائدة إلى المطبخ وهي تبرطم بضيقٍ:
    -كل حاجة دُرة! أومال علي و أنس فين؟ ده بابا قال إنهم يساعدوني.
    اتجهت أنظارها لهذا الفتى الواقف بجوار الثلاجة ممسكًا بكوبٍ من الماء يرتشف منه، عندما نطق بنزقٍ:
    -أنا موجود في الخدمة.
    رمقته بنظرة ضيقة مزعوجة من وجوده، ظنت أنه يهزأ بها، فقالت في لهجة آمرة مترفعة، وهي تشبك ساعديها أمام صدرها:
    -طب تعالى شيل الصنية.
    أسند زين الكوب على المسند الرخامي، وتقدم ناحيتها ببدلته الكحلية الأنيقة متسائلاً في عتابٍ لطيف:
    -مافيش لو سمحت؟ أي حاجة ذوق منك
    ما كان منها إلا أن ردت بسخافةٍ:
    -خلاص، بلاش، ولا الحوجة لحد.
    أنهت جملتها وهي تحمل الصينية الأخرى المملوءة مسبقًا بالمشروب الغازي، حملتها إلى الخارج وسط ذهول زين الذي راح يردد مدهوشًا من تصرفها الفظ:
    -إيه ده؟ هي داخلة شمال فيا كده ليه؟!
    اندفاعها المتعصب إلى داخل غرفة نومهما، يعني أنها غير راضية عما يحدث، وهناك ما يزعجها بشكلٍ ما. من معاشرته الطويلة لها، بات تميم يفهم تصرفاتها دون الحاجة للتكهن، تبعها في هدوءٍ، وأغلق الباب ورائهما، ثم ركز كامل بصره عليها وهي متأنقة في بدلتها البيضاء، لونه المفضل على الدوام، كانت محتشمة، وقورة؛ لكنها ما زالت تحتفظ بسماتها الشقية التي تغويه بنظرة أو ابتسامة متدللة. قاوم جموح خيالاته في هذه اللحظة الجادة حين هتفت في تزمتٍ:.
    -مش معنى إنه صاحبك توافق على طول، لأ لازم تشد عليه، زي ما بتشد على علي و أنس.
    هز رأسه معقبًا وهو يدس يديه في جيبي بنطاله الأسود:
    -حاضر يا فيروزة.
    رأت تراخي رابطة عنقه، فتحركت في تلقائية نحوه، ثم وضعت يديها على ياقة قميصه الرمادي لتضبطها، قبل أن تنتقل نحو رابطة عنقه وتُعيد عقدها في مهارة واحترافية وهي ما تزال تكلمه:
    -وماتنساش مافيش خروج ولا مقابلات لواحدهم من غير ما يكون في كتب كتاب.
    وضع تميم إصبعيه بين ياقة قميصه والفراغ الضيق الملامس لعنقه محاولاً خلق مسافة أكبر للتنفس، ثم أخبرها ساخرًا:
    -ماشي، هنفذ الوصايا العشرة معاهم، هعمل حظر تجول كمان، إيه رأيك؟
    حدجته بنظرة نارية قبل أن تهتف في حدةٍ، ودون أن ترتفع نبرتها:
    -إنت بتتريق؟ بكرة نشوف هتعمل إيه مع دُرة؟
    رفع حاجبه قائلاً في تحدٍ:
    -ومين قالك إني هفرط فيها بالساهل؟
    سألته في لمحةٍ من السخرية:
    -هتسيبها تعنس جمبك؟
    التوى ثغره ببسمة غير مبالية وهو يجاوبها:
    -أه تعنس وتشيب كمان، دي الغالية على قلبي، النفس اللي بخاف عليه يروح في لحظة.
    شعرت بالغيرة من وصفه المشوق، وقالت في عبوسٍ وهي توليه ظهرها:
    -أكتر من أمها طبعًا.
    وقف خلفها واضعًا يديه على كتفيها، دلكهما في رفقٍ وهو يهتف بالقرب من أذنها:
    -مين قال؟
    حاولت إزاحة يده عن كتفها قائلة بنفس الوجوم المغتاظ:
    -حاسب.
    مال برأسه نحو منحنى عنقها المتواري أسفل حجابها، ودفن رأسه فيه، كأنما يريد سماع نبضاتها المتسارعة، والشعور بدفقة متجددة من دفئها المغري، اضطربت أنفاسها وهو يرتفع بشفتيه متجهًا إلى صدغها هامسًا لها:
    -ده إنتي قلبي.
    قاومت خبرته المحنكة في إغوائها واستدراجها نحو فخه بنجاحٍ، واستلت نفسها منه، لتستدير ناظرة إليه وهي تقول بوجهٍ اختلجته حمرة طفيفة:
    -اضحك عليا زي تملي.
    قبض على معصميها، فاحتدت نظراتها بشكلٍ كبير، حاولت التحرر من قيده المتحكم بها؛ لكنه بادر وجذبها إليه، أسرها في حضنه، وحاوطها بذراعيه، لتلتصق أكثر بصدره، تلوت بجسدها محاولة المناص منه وهي تهتف في تذمرٍ:
    -إيه اللي إنت بتعمله ده؟ مش وقته خالص.
    قال بنظرة تعكس شقاوته:
    -وإيه اللي يمنع؟
    اتسعت عيناها في استنكارٍ وهي تعلل له:
    -إنت بتهزر؟ الناس قاعدة برا.
    أخبرها في تلذذ وابتسامته العابثة تتراقص على ثغره:.
    -في تكة أطردهم، وأفركش الجوازة، المهم إنك معايا.
    انزوى ما بين حاجبيها معترضًا على تصرفه:
    -مش للدرجادي، احنا كبرنا على الحاجات دي.
    هتف في تسليةٍ:
    -الحاجات دي عندي مالهاش سن، وبعدين كل ما تكبري حبة في قلبي تزيدي محبة.
    ضحكت في ميوعة، وعلقت:
    -بكاش...
    ثم تصنعت الجدية وأمرته:
    -حاسب، وخلينا نطلع نشوف ضيوفك.
    تحركت يداه في تمهلٍ على ظهرها تمسده، رمقها بنظرة شقية عما مضى وهو يسألها في توقٍ:.
    -بأقولك إيه، مش ناوية في المناسبة السعيدة دي ترقصيلي مرة كده من نفسي؟!
    تشوق لسماع ردها، فرفضت في جدية واضحة:
    -قولتلك مابعرفش.
    منحها تلك النظرة العطوف المتذللة وهو يلح عليها:
    -حاولي طيب، دي من أحلامي، وأنا استنيت كتير.
    صمتت لهنيهة قبل أن تقول في عبثيةٍ؛ كأنما تريد استفزازه وإغاظته:
    -خلاص هابقى أرقص في فرح كوكي.
    شدد من ضمه لها كأنما يعاقبها على اقتراحها النزق، قبل أن تنخفض إحدى يداه وتمنحها ربتة تأديبية على ردفيها، جعلتها تشهق وهو يعنفها:
    -لا والله، يعني يوم ما تشطحي تنطحي؟ بناقص منها رقصة.
    استخدمت كل قوتها لتدفعه من صدره، فنجحت في التخلص من قيده، أو هكذا ظنت حين تراخت قبضتيه عنها، لتعتقد أن لها الغَلَبة؛ لكن ما لبث أن أعادها إلى أحضانه بسحبة قوية، فتأوهت مقاومة إياه، سرعان ما انخفضت إلى استسلامٍ مطيع وهو يلامس بشفتيه بشرة وجهها، سرت فيها نفس القشعريرة الخجلة اللطيفة؛ وكأنها لا تزال حديثة العهد بمشاعر الحب العفيفة، قبل وجنتها بلطفٍ، محفزًا الكامن من حواسها، قبل أن تتحرك شفتاه للجانب لتلامس زاوية ثغرها، حينئذ انفلتت منها آنة خافتة متأثرة، لفح بشرتها بحرارة قربه، ثم همس لها مكررًا اعترافه؛ بصوت خطف الفؤادِ قبل الأنفاس:.
    -قلبي محبش إلا طاووس واحد بس..
    أغمضت عينيها مستمتعة بهذه الأحاسيس المرهفة التي تتدفق عليها وتغرقها في نبعها، زاد خفقان قلبها مع إكماله لجملته المميزة:
    -هو إنتي!
    ليتبع ذلك قبلة عميقة، كانت ولا تزال تمنحها في كل مرة يتقاربا فيها، هذا الشعور الواثق بالكمال وتمام الجمال.
  3. omamer
    رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل السبعون والأخير
    خشي من احتمالية تأخره عليه، وتعرضه للتوبيخ اللاذع منه، خاصة أن المكان في هذا الوقت كان مزدحمًا بشكلٍ لا يُطاق، ولسان فضل لا يتوقف عن السب واللعن تحت أي ظرف، أخرج رفيقه هاتفه المحمول من جيبه لينظر إلى التوقيت فيه، أطلق زفرة مزعوجة، وقد تأففت ملامحه، اشرأب بعنقه مجددًا لينظر إلى العاملين المنهمكين في إعداد طلبات الطعام، وضع يده على بطنه يتحسسها، يكاد يسمع صوت قرقرة معدته من الرائحة الشهية المغرية، قاوم جوعه قدر استطاعته، سئم من الانتظار، وضاق صبرًا، لهذا صاح عاليًا من موضعه ليدفعهم للتعجل في تسليمه ما يخصه:.
    -الله يكرمك خلصني أوام، أنا مستعجل.
    احتج عليه أحد الواقفين على مقربة منه في تهكمٍ:
    -يعني لسه جاي وعاوز تمشي؟ ده الناس هنا بقالها فوق الساعة.
    نظر إليه قائلاً بتعابيرٍ منقلبة:
    -معلش، أنا على سفر.
    رد عليه الرجل بشيءٍ من التهكم:
    -الله يسهلك.
      نفخ رفيق فضل مرة ثانية، وراح يُعاود النظر في شاشة هاتفه، قبل أن يعيده إلى جيبه، عندئذ تحسس المدية التي تم نزعها سابقًا من كتف فضل بعد ادعاء تعرضه للإصابة عن طريق الخطأ، وتضميد جراحه مؤقتًا في إحدى العيادات الخاصة بأحد أطباء الجراحة، لم يرغب في التخلص منها، واحتفظ بها لنفسه بعد أن قام بتنظيفها بمطهرٍ، كنوع من الذكرى، أخفى ابتسامة منتشية وهو يتلمسها بأصابعه المدسوسة في جيبه:.
    -ده أنا نسيت إنها معايا، وربنا خسارتها تترمى، دي من النوع الغالي...
    سرعان ما تجهمت تعابيره نسبيًا وهو يكمل حديث نفسه:
    -بس فضل هيسبغلي في الراحة والجاية لو شافها معايا.
    برقت عيناه بوميضٍ مستمتع حين طرأ بباله فكرة مستهلكة؛ لكنها كانت مرضية لها، فأخذ يخبر نفسه:
    -هبقى أداريها فترة لحد ما ينسى، وبعد كده أخدها اتنمظر بيها قصاد المقاطيع أصحابي.
    انتشله من شروده الحالم صياح أحدهم بلهاثٍ منفعل:.
    -يا جدعان، إنتو أعدين هنا ومش شايفين الكارثة اللي برا.
    انتبه الجميع لحديثه الهام، وبادر أحد الأشخاص بسؤاله في فضولٍ متزايد:
    -يا ساتر، حصل إيه؟
    أشار الرجل بيده نحو الخارج موضحًا في نفس الصوت المنفعل:
    -على أول الشارع في بلكونة وقعت من عمارة الاتحاد.
    سأله آخر في قلقٍ:
    -وحد جراله حاجة؟
    هز كتفيه في تحيرٍ، وأجاب:
    -مش عارف لسه، بس الناس هناك أمم.
    لكز أحد الأشخاص كتف آخر قريبًا منه يستحثه على التحرك وهو يقول:.
    -بينا نشوف لحد ما يخلصوا الأوردرات.
    بدأ بعض المتواجدين بداخل المطعم بمغادرته لرؤية الحادث، في حين بقي رفيق فضل قابعًا في مكانه، تقدم في الصف، وهتف مجددًا بصوته المرتفع:
    -يا عم خلصني وهات الكباب خليني أشوف مصالحي.
    رد عليه العامل من خلف الحاجز الزجاجي:
    -طيب، اصبر، ولا روح معاهم اتفرج لحد ما نجهزلك طلبك.
    اعترض عليه في عنادٍ:
    -لأ مش ماشي قبل ما أخد الكباب.
    خاطبه العامل في سماجةٍ:
    -يبقى استنى دورك وإنت ساكت.
    قوست الأخير فمه في نفورٍ، وغمغم مع نفسه بسخطٍ وهو يشيح بوجهه:
    -معاملة زفت، ماتتخيرش عن فضل!
    العودة بلا تحقيق أدنى درجات الانتقام اعتبره أمرًا مخزيًا، لم يجرؤ تميم على الذهاب إلى المنزل، واتجه إلى الدكان ليمكث به منفردًا بحاله المضطرب، تجنب جميع العمال الاقتراب منه، خاصة بعد تحذيره الصارم بعدم إزعاجه، تركوه في عزلته بالداخل، وواصلوا عملهم بهمةٍ دون التفكير في اللجوء إليه إن استدعى الأمر لهذا. فقط واحدٌ من العمال تشجع ليهاتف الحاج بدير ليطلعه على حالته، فأخبره الأخير بالانصياع لأوامر ابنه، وانتظار مجيئه للتصرف والتعامل معه.
    خلال تطوافه الطويل في تفكيره العميق والمتصارع ما بين فعل الصواب، وارتكاب الخطأ، أحس تميم بالتخبط، والتحرُّق، فالقلب رغب منه التروي، والعقل أصر على الثأر وقطع الأعناق. لم تنقشع غيمات غضبه المستعرة بعد، بل كانت تتراكم، وتزداد قتامة كلما استحضر ذهنه كلمات فضل السقيمة، إن لم يكن واثقًا في براءة زوجته، لانساق بلا تعقلٍ وراء أكاذيبه، وفعل الأسوأ، ما لا يأتي على عقل بشؤ؛ لكن ثقته بها غير محدودة، غير قابلة للتشكيك.
    استند بجبينه على قبضتيه المضمومتين، وراح يتنفس بثقلٍ، كأنما ينفث حممًا من اللهيب من صدره، ارتفع رأسه المنكس عندما سمع صوت والده يناديه في حنوٍ:
    - تميم.
    عيناه الغائمتان كانتا كفيلتان للإشارة إلى مدى ما يكبته من ثورة عارمة، ضم شفتيه بقوةٍ، وتحفز في جلسته بشكلٍ لافت لتشنجه، دنا منه بدير قائلاً بأسلوبه الهادئ السلس:
    -كويس إنك جيت على هنا.
    جلس على المقعد المواجه لمكتبه، وسأله في اهتمامٍ، ونظراته مسلطة عليه:
    -عامل إيه دلوقتي؟
    لم يستطع تميم تخبئة انفعاله المشحون، تحرر قدرًا منه وهو يجاوبه في حدةٍ، انعكست في نبرته قبل ملامحه:
    -هاقولك إيه يابا؟ إني مش قادر أوري وشي لمراتي، ولا حتى هابقى عارف أرفع عيني في عينها وأنا مجبتلهاش حقها لسه؟
    صمت بدير للحظةٍ قبل أن يسأله بتريثٍ:
    -هتجيب حقها وتودي نفسك في داهية؟
      هتف في نبرة متحفزة على الأخير، وقد اِربد وجهه بالمزيد من أمارات الحنق:
    -الشرف مافيش فيه كلام يابا.
    بسط بدير كفه على سطح المكتب، وأخبره بتعابيرٍ هادئة مستكينة:
    -اصبر، واحتسب، وافتكر كلام ربنا لما بيقول وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ..
    كان كمن أصيب بخرسٍ مؤقت، ألجم لسانه، وأصغى إليه وهو يتم جملته:
    -يعني حكم ربنا نافذ رغم إرادة البشر، مشيئته هتحصل شئنا أم أبينا.
    رغم هياجه ردد تميم من بين أسنانه:.
    -ونعم بالله..
    واصل والده الكلام معه لإقناعه بالتريث، مستخدمًا أسلوبه السهل اللين:
    -إنت ربنا عوضك ورزقك بنعم كتير، والحاقد اللي زي البغل ده عاوز يعميك عن خير ربنا، وياخدك لطريق مالوش نهاية، إنت في امتحان دلوقتي ربنا حطك فيه، وعاوز يشوفك هتعمل إيه، ففوض أمرك ليه، وانتظر النتيجة، وزي ما هو سبحانه بيكون غفور رحيم مع عباده، بيكون برضوه المنتقم الجبار وشديد العقاب مع الظالمين.
    أخفض رأسه مطبقًا على جفنيه، كأنما يحاول تحجيم ما يتقد بداخله من مشاعر هائجة، تسعى لكل ما هو مُخرب، امتدت يد والده لتمسح على كفه في مودةٍ، وأضاف:
    -والظالم مهما اشتد ظلمه نهايته أقرب مما يتخيل.
    اختنق صوت تميم لشعوره بالتقصير، وظهر واضحًا عندما عقب في ألمٍ:
    -صعبان عليا حالي يابا، لما مراتي تستنجد بيا، وأبقى مش قادر آ...
    قاطعه مبتسمًا في تأكيد:.
    -مراتك بتحبك، وعايشة تحت ضلك، هتحرمها من قربك بإنك تعمل الذنب وتبرر؟
    لم يستطع مغالبة غضبه المتصاعد، فغطت آثاره على كامل وجهه حين علق منفعلاً:
    -يعني أسيبه كده يعمل ما بداله؟ يطعن في شرف مراتي وأنا واقف أتفرج؟
    تكلم معه بدير بهدوءٍ:
    -ومين قالك إنه هيتساب كده؟ ربك قادر على فعل كل شيء، وخصوصًا لما البشر يعجز عن التصرف.
    طرد تميم الهواء في زفيرٍ طويل محمل بالاستياء، استمر والده في التحدث إليه بطيب الكلام:.
    -استهدى بالله، وأرمي همومك عليه...
    ثم نهض واقفًا وهو يطلب منه:
    -قوم معايا نروح البيت، مراتك مستنياك هناك.
    كان يطلب منه ما لا يملكه حاليًا، فمواجهة نظراتها المليئة بهذا الشعور المقهور لم يكن مستعدًا له، اعتذر منه مبررًا في ضيقٍ ما زال محتلاً كيانه:
    -شوية بس يابا، مش عارف أقابلها وأنا كده.
    تفهم عزوفه، وقال ناصحًا إياه:.
    -طيب، بس خليك فاكر إنها مفطورة من العياط عشانك، فماتسبهاش لوحدها، كسرة القلب وحشة، وهي عشمانة فيك أوي.
    هز رأسه في طاعةٍ قبل أن يرد بصوتٍ انخفض بشكلٍ تدريجي، كأن الإعياء تمكن منه:
    -حاضر يابا.
    ابتسم بدير في حبورٍ، ودعا له عن طيب خاطرٍ:
    -ربنا يكرمك ويراضيك.
    تركه بمفرده، وغادر في هدوء، ليظل تميم حبيس همومه الثقيلة، رغمًا عنه نفرت دمعة عاجزة من طرفه، أزاحها قبل أن يراها أحدهم، ليردد بعد ذلك بين نفسه في تحيرٍ موجع:
    -أخد حقها منك إزاي وأنا متكتف كده؟!
    كاد يغرق في همومه الثقيلة مرة ثانية لولا رنين هاتفه، نظر إلى الاسم الصادح على شاشته، فوجده لشقيقته، كانت من عادتها ألا تتصل إلا لو كان الأمر هامًا، تجاهل اتصالها متوقعًا أنها تلعب دور الوسيط في تهدئته، فربما اشتكت إليها والدته، وطلبت منها التدخل لإيقافه عن تهوره. لم يرغب في مصارحة أحدهم عما يجوس في نفسه، أطرق للحظاتٍ، ولم يكترث لمكالمتها؛ لكن تكرر اتصالها، وبدا مُلحًا بشكلٍ مزعج، كان على وشك التغافل عن إجابتها لولا أن قرأ رسالة نصية منها وصلت إليه، رددها بغير صوتٍ:.
    -الحقني يا تميم، ابني في المستشفى، وأنا لوحدي.
    عندئذ انتفض من مقعده، ويده تعبث بأزرار الهاتف ليتصل بها، بمجرد أن أجابت عليه، سمع نهنهات بكائها، سألها في جزعٍ:
    -إنتي فين بالظبط؟ أنا جايلك على طول.
    بدا وكأن في همها النجاة مؤقتًا من بوتقة أحزانه، لينشغل كليًا بأمرها ويلتهي عقله عن التفكير فيما يحرق أعصابه ويتلف البقايا الصامدة فيه.
    ظل ملازمًا لها طوال فترة بقائها بالمشفى لتقطيب جرح صغيرها الذي تعرض لحادث منزلي أدى لجرح راحة يده، أثناء لهوه بواحدٍ من الصحون الفخارية حين غفلت عنه للحظاتٍ، فسقط من يده، وتكسر، مما جعل جلده الناعم يُجرح من الأجزاء الحادة، وينزف بغزارة. تنفست هاجر الصعداء عندما تأكدت من زوال الخطر، وعادت به إلى منزلها بصحبة شقيقها، وضعته بالفراش، وخرجت إليه قائلة بزفيرٍ متعب:
    -الحمدلله نام، عدت على خير.
    تطلعت إليه بامتنانٍ وهو جالس على مائدة الطعام، ثم تابعت بعد تنهيدة سريعة:
    -مش عارفة كنت هاتصرف إزاي لو مكونتش معايا.
    قال بنفس التعابير الواجمة:
    -أنا سندك يا هاجر، وقت ما تعوزيني كلميني.
    تحرجت نسبيًا وهي تخبره:
    -فكرتك مشغول، وخصوصًا لما مردتش عليا على طول، ده غير إن سراج مسافر في شغل، كنت هابقى في حيص بيص، لا هاعرف أروح ولا أجي لوحدي.
    فشل في الابتسام وهو يحاول طمأنتها:.
    -أنا معاكي في أي وقت، وكويس إنك بعتي رسالة.
    عقبت عليه في عفويةٍ:
    -ده اللي جه في بالي ساعتها.
    أومأ برأسه بخفةٍ، وقال:
    -ربنا يحفظهلك ابنك، ويباركلك فيه.
    اتسعت بسمتها وهي تكلمه:
    -يا رب، وعقبال ما تفرح بعوضك يا تميم.
    سحبت المقعد لتجلس في مواجهته، تفرست في ملامحه التعسة بفضولٍ شبه متحير، ثم سألته بنظراتٍ ضيقة:
    -مالك شايل الهم ليه؟
    أراح ظهره للخلف، وراوغها موجزًا في الرد:
    -مافيش.
    انتفضت بغتةً كأنما تذكرت شيئًا، تراجعت خطوة للخلف، وراحت تقول في عتابٍ:
    -الكلام خدني ومجبتلكش حاجة تشربها.
    اعترض على ذهابها قائلاً:
    -مالوش لزوم.
    هتفت في تصميمٍ وهي تسرع الخطى:
    -والله ما يحصل.
    توقفت عند أعتاب مطبخها مقترحة في حماسٍ:
    -هاجيبلك عصير فريش يرد الدموية في وشك.
    لم يعارضها، والتزم الصمت مرة ثانية؛ لكن بقيت أفكاره الصاخبة تهتاج في رأسه، ما زال وجه هذا القمئ وهو يدلو بدلوه الكاذب عليه حاضرًا بقوة في مخيلته، انقبضت أصابعه وتكورت في شكل قبضة متشنجة، ضرب بها على سطح المائدة في حنقٍ وهو يغمغم لاعنًا إياه بهسهسة خافتة:
    -كلب نجس، (، )!
    تذكر أنه لا يزال محتفظًا بقطعة الثياب التحتية في جيبه، أخرجها منه لينظر إليها عن كثب، وألسنة اللهب تتقاذف في حدقتيه، كيف لوغدٍ مثله أن يحصل على مثل تلك الأشياء النسائية الخاصة؟ على الأغلب سرقها خلسة في غفلة من الجميع، وفي وقتٍ كان متواجدًا به بمنزل العائلة، دون أن ينتبه له أحدهم، وما أكثر زياراته السمجة! التفت فجأة نحو شقيقته التي راحت تمازحه في دهشةٍ:.
    -إيش إيش، إنت جايب الحاجات الحلوة دي لمراتك ولا إيه؟
    طوى القطعة بتعجلٍ، فخاطبته ضاحكة:
    -وماله، دلعها واتمتع معاها.
    كان على وشك إعادتها إلى جيبه، لولا أن شددت عليه، بشيءٍ أكد كذب افتراء هذا الحقير:
    -بس شيل تيكت السعر من عليه، لأحسن تبقى عيبة أوي في حقك.
    أمعن النظر في ورقة السعر الملتصقة على الجانب، والتي غفل فضل عن نزعها، تفحص القطعة بتدقيقٍ، فوجد المزيد من الملصقات الخاصة بالمقاس، والموديل، استرعى الأمر انتباهه بشدة، فإن كانت زوجته تخونه حقًا، وهذا ما لم يصدقه من الأساس، فكيف إذًا ارتدت هذه الثياب وأهلكتها وهي ما تزال بحالتها الجديدة؟!
    الكاذب الفاسق أراد فقط زرع الفِتنة بينهما، وإفساد زيجتهما بأحقر الوسائل الممكنة، دون أن يكترث لنتائج فعلته المشينة! ما ضاعف من شعور تميم بالاحتراق، هو تركه له هكذا دون تأديبه بما يستحق، فإن رحمه اليوم، وعفا عنه، فلن يمضي الغد دون أن يزيد من خسته، لذا بدا من الأفضل من وجهة نظره معاقبته على كل جرائره شر عقاب. مرة ثانية تنبه لشقيقته وهي تسأله في دهشةٍ:
    -مالك يا خويا؟ سرحت في إيه؟
    نفى بتصنعٍ:.
    -ولا حاجة يا هاجر.
    لم تكن مقتنعة برده، وسألته وهي تحاول سبر أغواره:
    -الموضوع شكله كبير، ده أنا بكلمك وإنت في عالم تاني.
    تحجج بحجةٍ واهية قبل أن يقرب كوب المشروب من فمه ليرتشف منه القليل:
    -معلش، تلاقيني بس تعبان.
    أخبرته على الفور في جديةٍ:
    -طب قوم روح لمراتك، زمانها مستنياك.
    من أجل خاطر زوجته قرر إرجاء تفكيره الانتقامي مؤقتًا، نهض من مقعده، وقال:
    -معاكي حق، هي محتاجاني دلوقتي.
    ابتسمت وهي تدعو له:.
    -ربنا يخليكم لبعض، ويخليك لينا.
    بادلها ابتسامة صغيرة تبددت سريعًا حين أولاها ظهره، لينصرف بعدها وهو يسعى للسيطرة على غضبه الآخذ في التصاعد.
    أشفق على حال حفيده، وانزوى بغرفته يقرأ القرآن راجيًا المولى عزوجل أن يرده إلى صوابه، وألا يخسره في لحظة طيش هوجاء، فقد كان له بعد ابنه السند والسلوى. لم يعلم إن كان ما مر به لاحقًا هو حلمٌ عابر، أم رؤية مليئة بالبشرى، حيث أحس الجد سلطان أنه لم يعد بمفرده في غرفته، جاءت إليه من بين ضبابٍ غريب من افتقدها، أتت باسمة مثلما اعتاد أن يراها في كل وقت، وإن ثقلت الهموم على كتفيه، ثمة هالة آخاذة بها دفعته للهتاف باسمها في شوقٍ شديد:.
    - فُتنة!
    أضافت رؤياها شعورًا متلهفًا على قلبه الملتاع، فراح يسألها في عتاب محب:
    -فينك من زمان؟ كل ده غايبة عندي؟
    أدمعت عيناه تأثرًا وهو يكمل:
    -نفسي أجيلك أوي، بس اللي حايشني عنك الواد تميم، خايف أسيبه لوحده يضيع نفسه.
    أمعن النظر في يدها، كانت تحمل لفافة بيضاء بها، قربتها من بصره، فحاول تبين ما بها؛ لكن نظره لم يسعفه، لهذا تساءل متعجبًا:
    -إنت جايبة إيه معاكي؟
    لم تجبه، فتابع أسئلته المتحيرة لها:
    -دي ليا؟
    هزت رأسها بالنفي، فانتقل لسؤاله التالي:
    -أومال لمين؟
    أشارت بعينيها إلى الصورة الموضوعة على الكومود المجاور لسريره، التفت ناظرًا إلى حيث تشير؛ كان الإطار الخشبي يضم صورة فوتغرافية له مع حفيده الغالي، فسألها مندهشًا:
    - تميم؟
    أومأت إيجابًا، ويدها ما تزال ممدودة باللفافة، حاول أخذها منها متسائلاً:
    -فيها إيه؟
    ضحكت تلك الضحكة المسرورة التي تدخل على قلبه الرضا، فابتسم باكيًا، كم اشتاق لسماع صوتها، للبقاء بقربها، للشعور بها! وكأنه لم يعد هناك ما يُقال بينهما، فبدأ طيفها في التلاشي، فزع قلبه، وهتف في حزنٍ ممتزج بكل اللهفة:
    - فُتنة؟ رايحة فين وسيباني؟
    اغرورقت حدقتاه بالدموع وهو يعاتبها لرحيلها الخاطف:
    -أنا ملحقتش أشبع منك.
    أفاق من غفلته الغريبة، والدموع ما تزال تبلل صدغيه، مسحها بظهر كفه مرددًا في غرابةٍ شديدة:
    -لطفك يا رب.
    عاود القراءة في مصحفه الشريف، فوقعت عيناه على الآية الكريمة: وَٱمْرَأَتُهُۥ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَٰهَا بِإِسْحَٰقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَٰقَ يَعْقُوبَ
    وكأنه فهم الرسالة الخفية من وراء هذه الرؤية السارة، لذا حلت البسمة على وجهه المرهق، وقال في سرورٍ انتشر في نفسه:.
    -البشارة جاية قريب، إنت الكريم يا رب!
    مثل تلك الأخبار المفجعة لا تأخذ وقتًا طويلاً في المعرفة والانتشار، حيث وصل النبأ إلى آمنة عن طريق إحدى معارفها بالبلدة، دون أن تلم بتفاصيل الوفاة أو كيفية حدوثها، اتصلت الأخيرة بها لتُعلمها لتجيء في التو، وتكون في مقدمة الحاضرين، وتقدم كامل الدعم ل سعاد في مصابها الأليم، نظرًا لصلة القرابة بينهما، لم تحاول آمنة الاسترسال في الحديث معها، واقتضبت في ردودها المصدومة إلى أن أنهت المكالمة، عندئذ أطلعت ابنتها همسة –والتي كانت متواجدة معها في نفس الآن بالبيت- على الخبر الصادم، فتفاجأت بما حدث، وهتفت متسائلة في ذهولٍ تام:.
    -معقولة الكلام ده؟ طب حصل إزاي وإمتى؟
    أجابتها بنبرة حيرى:
    -محدش عارف يا بنتي، بس هانقول إيه غير ربنا خلص منه.
    علقت عليها في غير أسفٍ:
    -هو خد جزاته، ده بذنب فيروزة واللي عمله فيها.
    غامت تعابير أمها، ورددت:
    -أه والله، ربك مُطلع وشايف.
    تساءل همسة في قدرٍ من الحيرة:
    -طب تفتكري فيروزة عندها خبر يا ماما؟
    حكت آمنة جبينها بإصبعها، وقالت نافية:
    -ماظنش، ده أنا مش عارفة أوصلها...
    ثم أشارت بيدها نحو هاتفها المحمول المسنود على الطاولة لتتابع مفسرة:
    -هي نسيت موبايلها هنا.
    سألها همسة مرة أخرى وهي تميل على الأريكة الغافل عليها رضيعها لتتفقده:
    -ومتعرفيش هي فين؟
    جاوبتها في تعجلٍ:
    -ما هي نزلت ورا جوزها من بعد اللي حصل.
    سكتت ابنتها قليلاً كأنما قد استغرقت في أفكارها، لتقول لاحقًا في نوعٍ من التخمين:
    -جايز يكونوا عند حماتها، مالهومش مكان تاني يروحوه.
    اقترحت عليها آمنة في غير تفكيرٍ:.
    -تعالي نشوفها هناك، وبالمرة نعرفهم باللي حصل.
    هزت رأسها موافقة، وأضافت:
    -ماشي، أنا هلبس رقية تكوني إنتي جهزتي.
    تحركت والدتها متجهة نحو غرفتها في عجالة، ولسانها يردد بنبرة عازمة:
    -على طول أهوو.
    تهدل جلده، وتكرمش تحت عينيه بشكلٍ مخيف، عندما سمع الأنباء غير السارة من مهندسه الزراعي بشأن تعرض كامل محصوله للإصابة بآفة خطيرة أفسدت نتاج أرضه، وهو لا يزال موجودًا على عروشه. هبَّ فتحي واقفًا، ثم قال وهو لا يزال غارقًا في صدمته:
    -معناته إيه الكلام ده؟
    أخبره المهندس في نبرة آسفة:
    -يعوض عليك ربنا يا حاج.
    هلل مذهولاً بعد أن جحظت عيناه:
    -يعوض عليا ربنا؟!
    علق عليه المهندس في هدوءٍ محاولاً توضيح تبعات سوء اختياره:
    -أنا نصحتك من الأول، وقولتك مافيش داعي نجرب حاجة مش مضمونة، النوع اللي استخدمته غير معروف، مالوش مصدر ولا أساس، وإنت أصريت على رأيك، فطبيعي تكون دي النتيجة.
    تنشطت ذاكرة فتحي بلقاءٍ سابق جمعه ب فضل وأحد مندوبي واحدة من المؤسسات الزراعية المتخصصة في إنتاج المبيدات المستجدة، كان اتفاقهم بشأن شراء ما ينقصهم بسعرٍ زهيد، من أجل خفض قيمة التكاليف، وجمع المزيد من الربح في نهاية الموسم الزراعي، فجاءت النتيجة عكس كل التوقعات، مخيبة للآمال، ومصيبة بالإفلاس.
    كان وجه فتحي يلمع كأنه يفح النار وهو يصيح بنبرة أشبه بالزئير:.
    -الله ينتقم منه، هو اللي شار عليا الشورة الهباب دي، وأديني خسرت الجلد والسقط.
    اندفع كالمجنون مواصلاً صراخه فيمن حوله بمضيفة منزله:
    -شوفولي الزفت فضل ده فين!
    جاءه الرد من أحدهم وهو مطرق الرأس:
    -في أخبار مش ولابد يا حاج فتحي.
    هتف في حرقةٍ، والحنق يتقاذف من عينيه:
    -تاني؟ هو في مصايب أكتر من كده؟
    تردد الرجل في إخباره؛ لكنه نطق في نهاية المطاف بنوعٍ من الأسى:
    - فضل تعيش إنت.
    هتف مذهولاً، وهو يحاول الحفاظ على توازنه:
    -مات؟
    أكد عليه الرجل بأسفٍ:
    -أيوه، لسه الخبر واصلنا من واد كان معاه في مشوار، وموته كانت صعب شويتين.
    بحث فتحي عن أقرب مقعدٍ ليجلس عليه قبل أن يفقد توازنه من كم الصدمات، حل الهم بأنواعه على تقاسيمه وهو ما زال يدمدم في حرقةٍ:
    -يعني هو مات وأنا اتخرب بيتي.
    ظهر الغليل في صوته وهو يصيح داعيًا عليه، وضاربًا بكفيه على فخذيه:.
    -روح الله يجحمك مطرح ما روحت يا فضل يا ابن سعاد!
    كل اقتراحٍ فكر فيه تضمن مخاطرة غير محمودة العواقب؛ لكن لا مناص من درأ الأذى بشيءٍ رادع، أبطأ تميم من سرعة سيارته حين ظهرت بنايته على مرمى بصره، شمل المكان بنظراتٍ خاطفة ليبحث عن بقعة خالية يركن فيها. لحظه وجد منطقة مناسبة مواجهة للمدخل، فانتقل إليها على الفور، وأطفأ المحرك. ظل باقيًا لبرهة في مكانه، محاولاً تفريغ عقله من كم الأفكار المتزاحمة فيه، قطع رنين هاتفه المحمول الصمت المشحون المستغرق فيه، التقطه بيده من على التابلوه، وتحدث إلى المتصل بفتورٍ:.
    -أيوه يا هيثم.
    هتف الأخير في صوتٍ شبه لاهث؛ كأنما يمهد لشيء خفي:
    -إنت فين يا تميم؟
    تساءل في اقتضابٍ:
    -خير؟
    أجابه متسائلاً في غموضٍ:
    -عرفت باللي حصل للبغل فضل؟
    الإتيان على سيرته في هذا الوقت تحديدًا يعني استثارة أعصابه، وهذا ما لم يطقه تميم، انفجر صارخًا في ابن خالته بحقدٍ:
    -ماله ال (، ) ده؟ عمل إيه تاني؟
    ردد هيثم مندهشًا:
    -تاني؟ هو كان في أولاني؟
    صاح به تميم في صبرٍ نافذ للغاية:
    -لخص في الكلام يا هيثم.
    تنحنح ابن خالته قبل أن يخبره بلمحةٍ من التشفي:
    -بص هو لا هيلحق يعمل تاني ولا تالت، ربنا خده وريحنا من قرفه.
    هبطت الخبر على رأسه كالصاعقة، فبرقت نظراته، وهتف مصدومًا:
    -إيه!
    أكد عليه فيما بدا أشبه بالشماتة:
    -أه والله، أنا زيك مصدقتش لما مراتي قالتلي، بيقولك مات في حادثة بشعة، بس لسه معندناش التفاصيل.
    من بين شفتيه ردد تميم في صدمة ما زالت لها تأثيرها عليه:
    -يا سبحان الله!
    علق هيثم قائلاً:
    -أهوو ريح واستريح.
    وكأنه يُحادث الفراغ، لم يكترث تميم لما يقوله، بل أخذ يكرر في صوتٍ خافت، يكاد يكون مسموعًا للطرف الآخر:
    -صدقت يا أبويا لما قولت وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ..
    لم تتوقف عن البكاء مُطلقًا بالرغم من تأكيدات ونيسة المتواصلة بأن زوجها بات في مأمن من الخطر، لم تقتنع فيروزة، ولم تصدق ذلك، ظنت أنها تحاول تهدئتها بهذا الكلام لتكف عن النحيب. بقيت في وضعية استنكارٍ رافضة الإصغاء إليها، حتى انعكس التأثير السلبي على بدنها، فبدت أكثر إعياءً، وذبولاً. حذرتها حماتها مجددًا بلومٍ رغم حنو نبرتها:
    -يا بنتي ماينفعش اللي إنتي عملاه في نفسك ده!
    كانت تبكي بصوتٍ متقطع، تهز رأسها برفضٍ صريح، فاستأنفت الأولى كلامها إليها، لعلها تتخلى عن عنادها، وتهدأ:
    -ما أنا قولتلك عمك الحاج بدير راحله الدكان، وهو بخير.
    ردت ببكاءٍ:
    -لأ، مش هطمن إلا لما أشوفه قصادي.
    وضعت ونيسة يدها على ذراعها، ضغطت عليها برفقٍ، وأكدت عليها في يقينٍ واضح:
    -بصي طالما أبوه كلمه، اعرفي إنه مش هيخرج عن طوعه، وهيسمع الكلام.
    نظرت إليها كأنما تفتش بين عينيها عن صدق عباراتها، فأضافت ونيسة في لطفٍ:
    -وبعدين كنتي هتلاقيني أعدة كده قصادك لو هو فيه حاجة؟! أنا برضوه أمه، وبخاف على ولادي من الهوا الطاير.
    على ما يبدو اقتنعت فيروزة قليلاً بحجتها المنطقية، فبدأت تسحب أنفاسًا عميقة تثبط بها نوبة بكائها، في حين قربت ونيسة صحن الفاكهة الذي أتت به لها منها قائلة بلهجةٍ شبه آمرة:
    -كلي بس حاجة إنت وشك لونه مخطوف.
    رفضت بشكلٍ قاطع تناول ما يسد جوعها:
    -مش عاوزة.
    ضربت ونيسة كفها بالآخر، وأخذت تهتف في تذمرٍ:
    -لا حول ولا قوة إلا بالله، وذنب الأكل إيه تغضبي عليه؟
    تمسكت برأسها قائلة في عندٍ طفولي:
    -ماليش نفس، أنا عاوزة تميم، كلميه يا طنط.
    أخبرتها في قلة حيلة:
    -يا بنتي ما أنا طلبته قدامك كذا مرة ومردتش عليا، وأبوه دلوقتي هيجي ويجيبه معاه.
    هتفت في لوعةٍ:
    -يا ريت.
    تنهدت ونيسة مضيفة في توجسٍ استبد بها، حاولت قدر المستطاع إخفائه:
    -ربنا يسترها علينا وما يشمتش فينا عدو.
    موجة من الدوار العنيف كادت تطيح برأسها، بالكاد تماسكت لئلا يظهر ضعفها، حاولت الظهور بمظهر الثبات وهي تستطرد في رجفةٍ طفيفة:
    -طنط أنا هاقوم أستنى تميم جوا في أوضته.
    ربتت ونيسة على كتفها مرددة:
    -ده بيتك يا بنتي، ارتاحي مطرح ما تحبي.
    من بين الحزن المرسوم على صفحة وجهها، ظهرت بسمة باهتة ممتنة على شفتي فيروزة، قبل أن تعود وتسحبها لتبدو عابسة من جديد. نهضت من مجلسها مغادرة الصالة، سارت في تؤدةٍ، وبغير اتزانٍ، نحو غرفته، استندت بكفها على طول الحائط الممتد في الرواق، إلى أن وصلت إلى الباب، دفعته بوهنٍ، ووطأت للداخل وهي بالكاد كانت على وشك فقدان وعيها، أغلقته من ورائها، ثم تقدمت نحو الفراش ملقية نظرة تعيسة عليها، بكت مرة ثانية، قبل أن تستلقي بجسدها عليه، تاركة لهذا الشعور العجيب بالإغفاء يغمرها، كأنما كانت تنشده لتريح عقلها المستنزف، وتستريح من أوجاعها اللا متناهية...!
    ملحوظة: هناك خاتمة بعد غد إن شاء الله.
  4. omamer
    رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل التاسع والستون
    في مكانٍ مُقفر، وسط تلك الصحراء القاحلة، حيث الفراغ الممتد من مساحات شاسعة، أبطأت سيارتا دفع رباعي من سرعتهما، لتقفا على مقربة من تلك السيارة، ترجل من السيارتين عدد لا بأس به من الرجال المدججين بالسلاح، يتقدمهم الهجام بخطاه الواثقة، وعلى وجهه ابتسامة مسرورة، هلل كاسرًا السكوت السائد في هذا المجهول:
    -والله زمان، أنا مش مصدق عيني.
    أتاه صوته على نفس القدر من العلو والتحية:
    -مرحب بالناس المهمة.
    امتدت يده لمصافحة تميم، واستطرد قائلاً بزهوٍ:
    -معلم تميم، عاش من شافك يا سيد الرجالة.
    بادله الأخير المصافحة أن تحرك ناحيته لإلقاء التحية عليه مرددًا:
    -ريس كرم.
    قهقه ضاحكًا في دهشة مستمتعة قبل أن يعقب وهو يحثه على السير بعيدًا عن الرجال المحاوطين بهما:
    -ياه، بقالي زمن ماسمعتش الاسم ده...
    استغرب تميم من عبارته، بينما واصل الهجام التوضيح:.
      -من أيام أبويا الله يرحمه، لدرجة إني نسيته، ده إنت رجعتني لسنين ورا بالاسم ده.
    علق تميم في هدوءٍ حذر، رغم علامات الضيق الظاهرة على محياه:
    -الله يرحمه.
    استمر الهجام في الشرح مبتسمًا بانتشاءٍ؛ وكأن ما يرتكبه من جرائم دموية وسيلته المتاحة للتسلية:
    -كل الرجالة بتناديني الهجام، أو كوبارتنا، وأنا بكرمهم، على طريقتي.
    آثر تميم الصمت، ولفظ دفعة من الهواء المشحون بغضبه من صدره، فتساءل الهجام مستفهمًا بتعابير اكتسب طابعًا جديًا مغايرًا لما كان عليه قبل ثوانٍ:
    -خير؟ وردني إنك عاوزني في مصلحة.
    بنفس الضيق البادي عليه أخبره تميم بما يشبه الاعتذار:
    -معلش هتقل عليك.
    عاتبه في وجومٍ:
    -والله أزعل منك لما تقول كده، إنت عارفني، اللي يفديني بروحه، أشيلهاله لآخر العمر.
    جال بذاكرته لمحة خاطفة من فترة احتجازه بالسجن، حيث تدخل مصادفة في إحدى المرات التي نشب فيها شجارًا عنيفًا بين النزلاء، للزود عن الهجام، دون أن يكون على صلة وثيقة به، وقتئذ تمكن من منع أحدهم من وخزه غدرًا بسلاحٍ أبيض، وقام بكسر ذراعه، ليعتبر الأخير ما فعله بمثابة توثيق لرابطة أخوية من نوعٍ مختلف، إن احتاجه يومًا وجده إلى جواره. نفض الذكرى عن عقله مؤقتًا، وهتف في غير ابتسامٍ:
    -تسلم، ده العشم برضوه.
    أخرج الهجام المظروف الأبيض من جيب بنطاله، وأعاده إليه قائلاً:
    -اتفضل..
    تناوله تميم الطرف المألوف منه، ونظر إليه متسائلاً في تعجب:
    -إيه ده؟
    أجابه مقتضبًا وهو يومئ له بعينه:
    -عربونك
    تساءل مرة أخرى في استغرابٍ أكبر:
    -بترجعه ليه؟
    أخبره باسمًا:
    -يا سيدي اعتبر المصلحة اللي عاوزها تحية مني ليك، ده كفاية إني شوفتك.
    رفض مُبديًا تصميمه:
    -لأ معلش، الاتفاق اتفاق.
    عارضه في صوتٍ هادئ، ينم عن محبة وأخوية قوية:.
    -معاك إنت، تؤمر تُطاع.
    أصر عليه في جديةٍ شديدة:
    -ده شغل، ومايزعلش حد.
    هتف الهجام معترضًا بعنادٍ:
    -لأ يزعلني أنا، ده أنا مرضتش أكسف الراجل بتاعك، وقولت دي فرصة حلوة أشوفك فيها...
    ثم وضع يده على كف تميم ليجبره على إخفاضها قائلاً:
    -عين فلوسك في جيبك.
    رفع ذراعه للأعلى متجاوزًا يده، وقال رافضًا:
    -لأ، لو مخدتهومش هاعتبر المصلحة ملغية.
    بدا التردد ظاهرًا على وجه الهجام، فتابع تميم بنفس النبرة المُصرة:.
    -اعتبره عرق الرجالة، ده حقهم.
    صمت لحظيًا، كأنما يفكر في الأمر، واضعًا يده على طرف ذقنه يفركها قليلاً، قبل أن ينطق في نهاية الأمر، وبابتسامة تعلن قبوله لعرضه:
    -مش هردك.
    أعاد الظرف إلى جيبه، ثم تساءل في نبرة مهتمة:
    -ها، مين اللي عليه العين، وخلاك تقابلني؟
    غامت عينا تميم بشكلٍ مخيف، وأخبره بعد زفيرٍ سريع، بجزءٍ لا يضاهي أبدًا ما يكبته في صدره من غليلٍ حارق:
    -واحد عاوزك تجيبه عندك، يتمنى الموت ومايطلوش.
    هز رأسه معلقًا في ترحيبٍ؛ كأن المسألة لا تعني شيئًا له:
    -بسيطة، لو عاوزني أشفِّيه كمان ده موجود.
    كان يعلم أن المقصود من تلك العبارة، هو إجراء عملية استئصالٍ لأعضائه الحيوية من أجل بيعها في السوق السوداء لفئة المتاجرة بالأعضاء البشرية، توحشت نظرات تميم، وصارت أكثر إظلامًا، عندما خاطبه بحنقٍ متصاعد:
    -الموت راحة ليه، وأنا مش عاوزه يرتاح.
    شبك الهجام أصابع كفيه معًا، فرقعهم دفعة واحدة، وتكلم في ثقةٍ عارمة:
    -اديني اسمه، وعنوانه، وهتلاقيه مشحون في ظرف كام ساعة عندي.
    نظر إليه تميم بغموضٍ، فأكد الهجام بنفس النبرة الواثقة:
    -وشغل نضيف، من غير شوشرة، ولا سين وجيم.
    استحسن الأمر، فقال موجزًا:
    -حلو الكلام.
    انتصب الهجام بهامته، والتفت ناظرًا إلى رجاله المجتمعين على مسافة بضعة أمتار، ليضيف في غرورٍ:
    -إنت عارف شغلي، يحير المتحير، ومش أنا اللي هاقولك.
    حاول الابتسام مجاملاً، فبدت بسمته متكلفة إلى حدٍ كبير، وهو يعلق:
    -طبعًا، مش كبير الهجامة!
      كانت أقرب للانهيار الكامل، في حالة من اللا وعي والصراخ، تبكي بهيسترية، وجنون، حتى احمر كامل وجهها من كثرة بكائها المذعور، ففي خضم لهفتها للحاق بزوجها نست فيروزة هاتفها المحمول، وبالتالي تعذر عليها كليًا التواصل بأي شكلٍ مع زوجها، لإقناعها بالعدول عن قراره المرعب، مما زاد من مخاوفها، وضاعف من ذعرها عليه. لم يختلف حال ونيسة عنها؛ لكنها بدت أكثر تماسكًا بالمقارنة بها، خاصة أنها كانت معتادة على مثل تلك الأزمات المتعصبة، بالرغم من عدم إلمامها –حاليًا- بتفاصيل الموضوع الشائك الذي قد يدفع ابنها للتصرف برعونة، تطلعت الأخيرة إلى فيروزة بعد أن أعدت لها مشروبًا باردًا لتتناوله، خاصة مع الإعياء الظاهر عليها، أصرت عليها لتأخذه، وقالت في إلحاحٍ وهي تجلس بجوارها على الأريكة:.
    -اشربي اللمون ده، واهدي، وإن شاءالله عمك بدير جاي وهيتصرف، دي مش أول مرة تميم يفكر فيها بالشكل ده.
    في قرارة نفسها أرادت فيروزة تصديق ما تقوله، أنها غضبة مؤقتة ستنتهي بزوال العارض المؤثر، وتعود الأمور إلى مجرياتها الطبيعية؛ لكنها تعلم تمام العلم أن الحقيقة مغايرة كليًا لما ترجوه، أبعدت يدها الممدودة إليها، ساكبة قدرًا من المشروب على ثيابها، وهتفت بصوتها المنتحب:.
    -مش عاوزة أشرب حاجة، أنا عاوزة جوزي يرجع.
    جاءها صوت الجد هادئًا ومطمئنًا:
    -هيرجع يا بنتي، اطمني.
    استدارت ناظرة إليه بعينيها المنتفختين، وعاتبته:
    -إزاي تسيبه يا جدي؟ ده هيضيع نفسه.
    نظر إليها بغموضٍ، وهو يلف رأس عكازه بين راحته، فتابعت في صوتٍ ينم عن هلعها:
    -المرادي غير، هيقتله!
    قالت كلمتها الأخيرة في صوتٍ عاد للبكاء العاجز مجددًا، ففزعت ونيسة، وسألتها بقلبٍ مرتجف:
    -مين هيقتل مين؟
    أدارت رأسها في اتجاهها، وأجابتها بشيءٍ من الخزي:
    - فضل ابن عمي.
    هنا صاحت ونيسة في حدةٍ:
    -هو ما بيتهدش البني آدم ده، عاوز إيه منكم؟
    دفنت فيروزة يديها بين كفيها، وراحت تصرخ في هياجٍ منفعل:
    -أنا السبب، لو مكونتش وافقت أتجوز تميم مكانش ده حصل.
    رد عليها سلطان بصوتٍ حازم لا غاضب:
    -ماتحمليش نفسك ذنبك مالكيش فيه، كل واحد بيشيل شيلته...
    بدت نبرته أكبر للهدوء وهو يتابع:.
    -وأنا عارف حفيدي، طالما حد غلط، هيربيه بالأصول اللي عارفها كويس.
    خفضت يديها لتنظر ناحيته، ثم صاحت في بكاءٍ حارق:
    -يا جدي بقولك هيقتله.
    اختنق صوتها، وتقطع وهي تكمل بصعوبةٍ:
    -وساعتها تميم هيروح خالص.
    لطمت ونيسة على صدرها، ورددت في نبرة بدت متوسلة، مليئة بالاستجداء:
    -ابني يا حاج.
    نهض سلطان واقفًا من موضعه، انتصبت هامته، ورفع رأسه للأعلى قائلاً في صوتٍ صارمٍ:.
    -مش عاوز كلام، أنا عارف حفيدي كويس، ومتأكد إنه هيتصرف صح.
    غادر المكان، دون أن ينبس بالمزيد، فعادت فيروزة لتدفن رأسها بين كفيها متابعة بكائها المرير، ومن بين نهنهاتها راحت تدعو في رجاوات شديدة:
    -يا رب اهديه ورجعه ليا، يا رب ماتخسرني فيه.
    أثناء قيادته على الطريق، نظر إلى هاتفه الذي لم ينقطع عن الرنين بتحفزٍ، لم يجب عن أي اتصالٍ ورده مؤخرًا، فقط بدا مترقبًا لمكالمة بعينها، تلك التي ستأتي بما اعتبرها مجازًا البشارة، حينئذ سيقتص من ذلك الوغد الدنيء، وبوحشية تامة، تجعله متوسلاً الموت؛ لكنه لن يأتيه! مع تكرار الصوت المزعج، تطلع تميم إلى شاشة هاتفه بعبوسٍ، اضطر أن يجيب على هذا الاتصال، فأصغى إلى صوت والده المتسائل في هدوءٍ رغم رنة الغضب المحسوسة فيه:.
    -مكونتش ناوي ترد على أبوك؟
    على مضضٍ جاوبه:
    -إنت فوق راسي يا حاج.
    سكت بدير للحظاتٍ، بدا فيها صوت أنفاسه مسموعًا، إلى أن تكلم أخيرًا بحنوٍ أبوي:
    -إرجع يا تميم.
    رغم بساطة الجملة، إلا أن تأثيرها عليه كان عظيمًا، مؤلمًا بدرجة جعلت قلبه ينقبض، ونظراته تشتعل، قتل تميم غصة عالقة في حلقه، وقال في حرقةٍ، وقد اشتدت قبضته على المقود:
    -حق مراتي يابا.
    أخبره في تعقلٍ:
    -هنجيبه، بس مش بالطريق اللي إنت ناوي تمشي فيه.
    رغمًا عنه ارتفع هدير صوته وهو يُحادثه:
    -معدتش ينفع أي مهاودة معاه، هو عدى كل الخطوط الحمرا.
    ما زال بدير محافظًا على ثبات صوته الهادئ عندما عقب:
    -يبقى نأدبه بالأصول، ولا إنت عاوز تحسرنا عليك لما نلاقيك متعلق على حبل المشنقة؟!
    لم يخبت غضب تميم شيئًا، بل إنه تضاعف وصار أكثر حدةً وهو يستحضر في ذهنه ما فعلته بكل دناءةٍ وخسة، احتدت نبرته قائلاً باحتجاجٍ، رافضًا أي شكلٍ من أشكال التهدئة وضبط النفس:.
    -ده معدتش ينفع معاه أصول، ويابا لو مفكر إن حتة وصل هيخليه يبطل فمش هيحصل.
    رد عليه بدير بصوتٍ مال للحزمٍ:
    -مش هتجادل معاك كتير، عاوزك في البيت قدامي.
    وقبل أن يفكر في الرفض، أكمل والده جملته:
    -ده لو إنت مقدر أبوك فعلاً، وعامل لكلمته احترام.
    بجملته الصريحة وضعه ما بين مطرقة الثأر، وسندان طاعة الوالدين، لم ينتظر بدير تعقيبه، أنهى المكالمة، وتركه يكتوي بنيرانه غضبه المستعرة كلما استحضر الذكرى، وينسحق كالطحين بين الرحى بوأد رغبته في الانتقام امتثالاً لأمره. لكز تميم المقود في عصبية، مختنقًا بما يهيج من مشاعر ثائرة بداخله، وصوت لعناته الهادرة ينفذ من نوافذه المغلقة للسيارات المتحركة بجوار خاصته.
    كلصٍ يختال بنجاح عملية سرقته، جلس فضل منتشيًا في المقعد الأمامي للسيارة التي استأجرها، للمرة الأولى يشعر أنه انتصر انتصارًا عظيمًا، في معركة دومًا كان فيها الخاسر على مدار جولاتها الممتدة، وإن كان انتصاره الزائف بالافتراء والكذب، مد يده برزمة من النقود إلى زميله مشددًا عليه:
    -راضي الرجالة كويس، وقولهم مش هاتكون أول مرة.
    هز رأسه صاغرًا وهو يكلمه من النافذة:
    -ماشي يا ريس فضل.
    استقام واقفًا ليشرع في التحرك مبتعدًا عنه، حتى ينفذ أوامره، بقيت عينا فضل مرتكزتان عليه؛ لكنه لم يكن منتبهًا له بشكلٍ كامل، فقد شرد في خيالاته الحالمة، متوهمًا قيام تميم بتعنيف زوجته بشكلٍ قاسٍ، قد يؤدي في النهاية إلى قتلها، انتفخت أوداجه، وامتلأ صدره بالهواء في تفاخر وهو يتحدث بين جنبات نفسه:
    -زمانه دبحك يا بنت ال (، ).
    أراح مرفقه على إطار النافذة متابعًا حديث نفسه:.
    -ولو معملش كده، دماغه هتفضل تودي وتجيب، ومش هيرتاح أبدًا.
    عبث شيطانه الماجن برأسه، ووسوس له مرة ثانية بفكرة أخرى جهنمية لاقت قبولاً كبيرًا لديه، لما لا يستغل هذه المسألة، ويلفق المزيد من الأكاذيب عن ابنة عمه، وينشرها في بلدته؟ فالناس لن تقاوم فضولها في الخوض في شرفها، وتصديق ما قد يُقال عنها رغم يقينه من براءتها؛ لكنها ربما تكون وسيلته في التغطية على فضائحه المشينة. تلون ثغره ببسمة خبيثة، والتمعت عيناه بهذا الوميض اللئيم وهو يؤكد لنفسه في صوتٍ خافت:.
    -هيجرى إيه؟ ده جايز بالحكاية دي الناس تنسى اللي حصلي، ويفكروا إنها عملت كده عشان تداري على عمايلها السودة.
    فرك كفيه معًا في نشوة متزايدة، وراح يستمتع بهذيانه، تنبه لصوت مرافقه عندما خاطبه:
    -خلاص يا ريس فضل، الكل اتراضى.
    أشار له بيده ليركب السيارة وهو يعقب عليه:
    -زي الفل..
    استقر الرجل في مقعد القائد، فأكمل فضل أمره لها وهو يمسح على بطنه براحته:.
    -اطلع بينا على الحاتي اللي في النواحي دي، هاتلنا منه كباب وكفتة.
    اندهش الرجل لعرضه السخي، كأنه لم يتوقع ذلك منه، خاصة و فضل يردد في سرورٍ غريب:
    -خلينا ننبسط.
    هز رأسه هاتفًا بابتسامة سعيدة:
    -عينيا.
    انحرف بالسيارة عبر الشوارع الجانبية إلى أن وصل إلى واحدٍ من أشهر المطاعم المتخصصة في تقديم اللحوم المشوية، بدا من غير اليسير إيجاد مكانٍ مناسب لصف المركبة، نظرًا لضيق الطرقات، اشرأب فضل بعنقه من النافذة المجاورة له، ولمح بقعة شبه خالية على مرمى بصره، أشار إليها بيده أمرًا من معه:
    -اركن هناك، في حتة فاضية.
    سأله متحققًا:
    -فين يا ريس فضل؟
    أجابه مشيرًا نحو إحدى السيارات حديثات الطراز:.
    -عند السكودا السودة دي.
    أومأ برأسه متسائلاً:
    -طيب، عاوز أجيب أد إيه يا ريس؟
    لوى ثغره مرددًا في امتعاضٍ، وقد تجهمت تعابيره قليلاً:
    -كفاية كيلو، يدوب أنا وإنت، بلاش طمع.
    نظر له الرجل من طرف عينه معقبًا بغير صوتٍ في تبرمٍ:
    -يعني هاكل الكيلو لوحدي، ما إنت هتلهف بقليله تلاتربعه.
    تنحنح مدعيًا امتثاله لطلبه قائلاً:
    -ماشي.
    رفع فضل سبابته قائلاً في لهجةٍ متشددة، وبها نوعٍ من التحذير:.
    -متتأخرش، وقوله يحط طحينة وعيش سخن، بلاش يستعبطك.
    ترجل من السيارة بعد أن ركنها في هذا المكان الخالي هاتفًا:
    -عينيا.
    شيعه فضل بعينين نهمتين وهو يختفي عن أنظاره، ليعاود الاستمتاع بنصره الحقير، مرددًا في صوتٍ خفيض:
    -يا سلام، الواحد ماتبسطش في حياته أد النهاردة.
    أفسد عليه ما اعتبرها لحظاته المميزة هذا الرنين المزعج، نظر إلى شاشة الهاتف متعجبًا من ذلك الرقم الغريب الذي يلح على الاتصال به، أجاب في تحيرٍ، سرعان ما تلاشى عندما سمع صوت والدته المألوف، انقلبت تعابيره، وغامت بتأففٍ وهو يسأله في نفاذ صبرٍ:
    -عاوزة إيه يامه؟
    ردت عليه في عصبيةٍ:
    -خربتها وارتحت يا فضل؟
    تجاهل سؤالها، وصاح في استنكارٍ حاد:.
    -إنتي جبتي تليفون جديد من ورايا يامه؟ أكيد واحدة من المزاغيد إخواتي، مش كده؟ ما هما عاملين رباطية عليا!
    صرخت به في حمئةٍ:
    -ده اللي همك؟ هتروح من ربنا فين؟
    أبعد الهاتف عن أذنه ليغمغم بسبةٍ خافتة، ثم قال في تكبرٍ:
    -محدش ليه دعوة باللي بأعمله.
    هتفت به في يأسٍ يشوبه كل اللوم:
    -راعي عضم التربة، دي بنت عمك، واللي يمسها يمسك.
    في جحودٍ لا يحتمل قال:
    -أنا مابراعيش حد، وده اللي عندي.
    استمرت سعاد في تقريعه قائلة بحنقٍ:
    -يعني موت أبوك بقهرته، وماسبتش الغلبانة في حالها، وآ...
    لم يرغب فضل في سماع هذا التوبيخ المستفز والمفسد لنشوته، فقاطعها في قساوةٍ:
    -ياباي، مابتزهقيش يامه من الحوارات دي، أه ارتحت، ولسه مبسوط.
    علقت عليه في قهرٍ:
    -منك لله يا فضل، ربنا عمره ما هيسيبك.
    صاح بها بنفس المشاعر المتحجرة:
    -اقفلي يامه، وولولي براحتك، أنا مش ناقص غم.
    ضغط على زر إنهاء الاتصال قائلاً في نفورٍ:.
    -هو أنا ناقص وجع دماغ.
    أعاد فضل رأسه للخلف، وأراحها على مقعد السيارة ناظرًا للأعلى بابتهاجٍ مريض؛ لكن ما لبث أن خبا ذلك السرور حين قرأ اللافتة العريضة التي لم يكن قد انتبه لها منذ البداية، ردد حروفها بصوتٍ لم يتجاوز ما بين شفتيه:
    -البناية مهددة بالسقوط، رجاءً عدم ركن السيارة بالأسفل.
    لا يعرف ما الذي جعله في تلك اللحظة يتحول من الانبساط للانقباض، اكفهرت كل تعابيره، تلبد فضل في جلسته، وانكمش بشكلٍ غريب، أحس بشيءٍ غير مريحٍ، باعث على الخوف، والإظلام التام، لم يكن قد أتم جملته للنهاية إلا وقد هوت كتلة خرسانية -ضخمة الحجم وثقيلة الوزن- من الأعلى، لها نتوءات حديدية مدبدبة استقرت فوق سطح سيارته، عند جانبه تحديدًا، كأنها تقصده، جعلت رأسه يتهشم، عظامه تتفتت، أطرافه تتمزق، وجسده ينسحق في لمح البصر، لتتحول السيارة إلى قطعة من الصفيح الغارق في الدماء.
    على إثر الصوت المفزع، وكتل الغبار المتناثرة في الأرجاء، انتفض جميع من في الشارع يصرخون في هلعٍ. عمَّت الفوضى في لحظاتٍ معدودات، واحتشد الأهالي في غمضة عين حول مكان الانهيار، لتحل عليهم الصدمة المخيفة. هلل أحدهم مشيرًا بيده للأعلى؛ كأنما يخمن ما حدث:
    -ده في بلكونة وقعت.
    أضاف آخر وهو يشير نحو إحدى السيارات:
    -الظاهر جت على العربية اللي هناك دي.
    للعجب! لم تتعرض أي سيارة أخرى للدمار مثلما حدث مع سيارته على وجه الخصوص، بل لم تمس أقل واحدة من مجموع العربات المصفوفة بسوءٍ سواها. الأشلاء الممزقة التي برزت في محيط السيارة جعلت المشهد أكثر تقززًا ورعبًا، صرخت النساء من هول المنظر، وامتنع الرجال عن تقديم المساعدة، فقد استمرت البناية في التساقط، كتلة وراء الأخرى؛ ولكن على نفس الموضع من السيارة، لتغرق تحت أطنانٍ من الركام وتُباد كليًا عن بكرة أبيها...!
  5. omamer
    رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الثامن والستون
    بُهتت، وذُهلت، وحل برأسها كل الارتعاب، شعرت بعد تصميمه غير القابل للعودة بانقباضة قاسية تعصف بثنايا قلبها، بل كاد من إثر صدمتها المخيفة ينسحق، ينمحق، ويتمزق إلى أشلاء. هبت فيروزة مذعورة واضعة كلتا راحتيها على كفيه المحتضنين لوجهه تتوسله بعينين تستدعيان أنهر الدموع من شدة خوفها عليه:
    -لأ يا تميم، أوعى تعمل كده.
    برفقٍ لا يخلو من قليلٍ من القوة استل تميم كفيه من أسفل يديها، وهتف في إصرارٍ ضاعف من مخاوفها أضعافًا مُضاعفة:
    -معدتش ينفع.
    نهض من جوارها متغاضيًا عن نظراتها المرتاعة، فقامت بدورها من موضع رقدتها بعد أن أزاحت الغطاء عن جسدها، هرولت خلفه مقاومة الدوار الخفيف الذي أصابها جراء حركتها المفاجئة، وصرخت به باستجداءٍ باكٍ:
    -استنى يا تميم، بالله عليك تسمعني.
      توقف عن السير ليستدير ناحيتها، لحقت به، وتابعت في رجاءٍ أكبر:
    -هو ده اللي عاوزه منك، يقضي عليك وعليا، يفرق ما بينا، يضيعنا.
    بدت ملامحه أكثر صلابة، تصميمًا، وعزمًا على المضى قدمًا حتى النهاية في انتقامه الحتمي، أخبرها بغير استرخاءٍ:
    -اللي يمسك بسوء مالوش الحق إنه يعيش.
    جال بخاطرها تصورًا خياليًا لنهاية الوضع بشكلٍ شنيع ومأساوي، فقط إن لم تبذل كل ما في وسعها لإيقافه، لذا وضعت فيروزة يديها المرتجفتين على ذراعيه ترجوه بقلبٍ مذعور، وتعابيرٍ لا تنم سوى عن الهلع:
    -عشان خاطري اهدى، أنا خايفة عليك، مقدرش أعيش من غيرك.
    تلك الكلمات المؤثرة، النابعة من القلب، والتي نفذت إلى ما بين ضلوعه، صدَّ بإرادة من حديد تأثيرها، وخاطبها بصوتٍ جافٍ، أجش، كأنما لم يعرف الرفق أبدًا:.
    -حقك هاجيبه، ولو فيها موتي.
    انخلع فؤادها أكثر، وظنت أنه سيقتلع من شدة ارتياعها، بكت بحرقةٍ، واستعطفته، وهي بالكاد تجثو على ركبتيها، علَّه يستجيب لتوسلاتها:
    -يا تميم!
    أمسك بها من كتفيها يجبرها على النهوض وهو يأمرها:
    -اقفي على رجلك، مش اللي زي ده يخليكي تركعي.
    من بين دموعها الغزيرة اعترفت له بصدقٍ، بما نفذ إلى الوجدان كالسهم المارق:
    -عشانك أعمل كل حاجة، بس ماتضعش من إيدي.
    جذبها إلى أحضانه، مشددًا من ضمته الأخيرة لها مؤكدًا لها:
    -خليكي فاكرة إن محبتش إلا إنتي.
    لم تستطع ردعه، ولا حتى إيقافه، انسل من حضنها، مودعًا إياها، ومنطلقًا خارج المنزل، وصوت صراخها يناديه باحتراقٍ يشع في كامل روحها:
    - تميم!
    في مكانٍ شبه مقفر، يحاوطه الخراب والركام من كل جانب، ناهيك عن أكوام القمامة ذات الرائحة العفنة، أوقف ناجي سيارته، عند ما تُعد مجازًا بوابة للمرور إلى الداخل، من الصعب تخيل كيف تكون الحياة في منطقة منفرة كتلك، وللدهشة هناك مئات الأشخاص من كل الأعمار يعجون بها. بنظراتٍ شمولية حذرة مسح محيطه بناظريه، وتقدم للأمام مُلقيًا التحية بثباتٍ:
    -سلام عليكم.
    رمقه أحد الرجال من ذوي الوجوه الإجرامية بنظرة احتقارية، قبل أن يرد مقتضبًا، كما لو كان يترفع عن الحديث معه:
    -وعليكم...
    في حين سأله آخر مستفهمًا بنبرة غليظةٍ، وقد أبرز سلاحًا آليًا كان ملتصقًا بجانبه:
    -إنت مين؟ وعاوز مين في حتتنا.
    ابتلع ناجي ريقه، ووزع نظراته بينهما، قبل أن يجيب:
    -كبير الهجامة.
    ضحك المتواجدون في سخرية هازئة منه، ليعلق الرجل الأول بتهكمٍ شبه مهين:
    -ليه هو كوبارتنا فاضي يقابل اللي زيك؟
    استجمع جأشه أمام تلك الوجوه الشيطانية، ورد في هدوءٍ:
    -قوله من طرف المعلم تميم سلطان، وهو هيقابلني.
    أمسك الرجل الثاني بياقة ناجي، وعبث بها بسخطٍ، فأبعد الأول يده عنه، وحدجه بنظرة قاسية، فلوى الرجل ثغره في ازدراءٍ، ثم استطرد:
    -شكلك واثق أوي من نفسك.
    رد عليه بجديةٍ رسمها على كل ملامحه:
    -عرفه إني موجود، وبلاش تضيع وقتي ووقتك.
    رغم لمحة التهديد المستترة في صوته، إلا أن ذلك الرجل تغاضى عنها مؤقتًا ريثما يتأكد من صدق أقواله، وإلا لصب عليه غضبه. بإشارة صارمة من عينيه صاح في أحد الواقفين يأمرهم:
    -بلغ العصفورة.
    رد عليه آخر مُظهرًا طاعته له:
    -وجب يا زميل.
    انتظر ناجي بتوترٍ جاهد لإخفائه على مقربة من البوابة، غيرُ قادرٍ حتى على تغطية أنفه، لمنع تلك الرائحة المنفرة من النفاذ إلى أنفه، وإلا لما سَلِم من تعليقاتهم السخيفة الهازئة به. تنبه لصوت أحدهم يسأله في نبرة تهكمية:
    -والحلو من نواحينا، ولا من فين؟
    ترفع وهو يجاوبه بسخافةٍ:
    -من بعيد.
    قبل أن يبادر بالرد عليه ظهر من يدعى ب العصفورة هاتفًا بلهاثٍ:
    -خليه يخش، الكوبارة مستنيه.
    تنحوا الرجال للجانب، وأزاحوا العوارض الخشبية، ليتمكن من الدخول تاركًا سيارته بالخارج، اصطحبه العصفورة في عربة التوكتوك عبر ممرات ضيقة، وأزقة أكثر ضيقًا بين بيوتٍ مبنية من الصفيح والطين اللبن إلى فضاءٍ فسيح، بعيدًا عن الرائحة القابضة، ليستنشق بعض الهواء النظيف، كان وسط كل هذا الخراب والبؤس يقبع بيتًا ضخمًا، وفخيمًا في هيئته، على النقيض كليًا مع مظاهر الفقر المدقع بالخارج، حينئذ أدرك أنه مجرد تغطية محكمة لتخبئة ما يحدث بالداخل.
      ترجل ناجي من العربة، ليقابل فئة أخرى من الرجال الأشداء، العتاة، شديدي الإجرام، كل منهم يحمل في يده سلاحًا حديث الطراز، ألقى عليهم التحية، وسمحوا له بالمرور إلى باحة البيت، هناك أبصر حديقة غناء مورقة، ونافورة تنتفض بالمياه في الوسط، وعلى يساره وضعت بعض الأرائك المخصصة للحدائق. تباطأت خطواته بالتدريج حين رأى من يُلقب بكبير الهجامة جالسًا على الأريكة المريحة، وفي يده مبسم النارجيلة، أخفض رأسه قليلاً احترامًا له وهو يستطرد قائلاً:.
    -سلام عليكم.
    لفظ الهجام سحابة كثيفة من الدخان من رئتيه، وابتسم مرحبًا به بحفاوة استغربها:
    -أهلاً بطرف الحبايب، أنا مصدقتش لما جالتي المكالمة.
    تشجع ناجي ليرفع أنظاره إليه، فرأى شابًا حسن المظهر، ضخم البنيان، على ما يبدو يتمرن يوميًا بانتظامٍ، ليبدو مفتول العضلات، غير الصورة المتوقعة في ذهنه من مقابلة رجلٍ ممتلئ بالشحم واللحم، مترهل الجسد، كبير في السن، وربما في وجهه توجد علامات الإجرام. ما كان ينقصه ليبدو كحارسٍ شخصي لواحدٍ من الشخصيات الهامة هو ارتدائه لبدلة رسمية، ورابطة عنق أنيقة. تنحنح ناجي معلقًا في لباقةٍ:
    -احنا نتشرف بيك يا كبير.
    ترك الهجام المبسم من يده، واستقام في جلسته المسترخية، مُسلطًا كافة أنظاره عليه وهو يسأله في اقتضابٍ متحفز:
    -خير؟
    ازدرد ريقه الجاف في حلقه، وأخبره في هدوءٍ:
    -الريس تميم عاوز يقابلك، ضروري.
    شدد على كلمته الأخيرة ليؤكد على أهمية الأمر، فما كان من الهجام إلا أن قابل ذلك بترحيبٍ واضح وهو يبتسم في غرورٍ:
    -وأنا جاهز، واعتبر اللي عاوزه حصل من قبل ما أعرف إيه هو.
    أخرج ناجي مظروفًا أبيض اللون من جيب بنطاله، وضعه قبالته على الطاولة البلاستيكية القصيرة، وأردف موضحًا:
    -وده عربون المحبة.
    امتدت يد الهجام لتلتقط المظروف، فضَّهُ من الجانب ليرى الأوراق النقدية الضخمة، ابتسم في حبورٍ، وعلق:
    -دايمًا عامر..
    ثم صاح موجهًا أمره لواحدٍ من الرجال المتواجدين خلفه:
    -قوم بالواجب مع ضيفنا.
    أطاعه الرجل في انصياعٍ تام وهو يومئ برأسه:
    -حاضر يا كوبارتنا.
    إن تراخت، واستكانت، ورضخت للأمر الواقع، فهذا يعني حتمًا خسارته للأبد، وهذا ما لن تتحمله مُطلقًا بعد أن ذاقت فاكهة الجنة معه، وتنعمت بفردوسها على الأرض في أحضانه. ضمت فيروزة طرفي حجابها المحلول معًا، عقدته دون أن تعبأ بشكل هيئته، وهرولت متابعة ركضها الهابط على الدرج لتلحق بزوجها وهي تناديه بصوتٍ بح من كثرة الصراخ:
    -مش هاسيبك تضيع وتضيَّع نفسك يا تميم.
    التفت آمرًا إياها بشيءٍ من الغلظة عند مدخل البناية دون أن يتوقف عن السير:
    -اطلعي فوق.
    التفت ساقها بالأخرى، وكادت تنكفئ على وجهها لولا أن أمسكت بالدرابزين، فمنعت نفسها من الوقوع، متوقعة أن يأتي لمساعدتها، وعلى غير المعتاد منه، لم ينظر خلفه، وواصل مشيه السريع نحو الخارج، عادت إلى اتزانها، وأكملت ركضها خلفه إلى أن وصلت سيارته، اعترضت فتحه للباب، ودفعته بكامل انفعالها لتغلقه، ثم استدارت ملتصقة بالباب، لتمنعه من فتحه، وسألته بصوتٍ لاهث يحمل اللوم:
    -هتخليني أجري وراك في الشارع كمان؟
    بوجهٍ غائم، وتعابير غير مبشرة أخبرها دون أن ترتفع نبرته:
    -اسمعي الكلام، واطلعي.
    ردت بعنادٍ، دون أن يرف لها جفن:
    -لو مشيت فأنا رجلي على رجلك.
    وقبل أن يفكر في الاحتجاج على تهورها المضاهي له، تحركت من مكانها، ودارت حول السيارة لتفتح الباب الأمامي، واستقرت في مكانها قائلة بتصميم:
    -مش هسيبك لوحدك.
    نفخ في صبرٍ نافذ، مدركًا أن التخلص منها بات عسيرًا، أرشده تفكيره إلى اصطحابها إلى بيت عائلته، فهناك لن تستطيع المناص، ووقتها سيكمل ما بدأه، للنهاية!
    خلف البيت المتسع، في مكانٍ يبدو كغرفة احتجازٍ، جدرانها رمادية داكنة، خالية من النوافذ، إلا من واحدة علوية، يحاوطها الزجاج، وقضبان من الحديد، بها كراكيب وبقايا أثاث متناثرة بشكلٍ عشوائي عند الأركان، احتشد بعض الرجال حول واحد مقيد من يديه خلف ظهره، يجثو على ركبتيه في وضع ذليل، مهين، منكس الرأس، ويصرخ من أثر العدوان الوحشي عليه. طقطق الهجام أصابع يديه معًا، قبل أن يبسطهما هاتفًا في صوتٍ أرعب أشد الرجال شجاعة:.
    -الرحمة دي مش عندي، دور عليها عند غيري.
    هتف الرجل يتوسله في ذعرٍ مسيطرٍ عليه:
    -يا ريس غلطة ومش هتتكرر.
    لم يرأف به، ولم يمنحه نظرة غفران، بل بدا أكثر إصرارًا على تعذيبه حتى النهاية، أقبل عليه وقد تناول سلاحًا ناريًا من أحد أتباعه:
    -الغلطة عندي بفورة، ورصيدك في السماح خلص.
    ارتاع الرجل في فزعٍ أكبر حين رأى ما بيده، وهدر يستعطفه ببكاءٍ وهو يرتجف كليًا من شدة ارتياعه:.
    -ده أنا راجلك، دراعك اليمين، طول عمري تحت طوعك.
    سحب الهجام زر الأمان عن سلاحه المعبأ بالذخيرة الحية، وأخبره في هدوءٍ قاتل، وهذا البريق الوحشي يظهر في عينيه:
    -دراعي لما يأذيني أقطعه، وإنت خونت العهد.
    باتت المسافة الفاصلة بينهما خطوتين، والسلاح الناري مصوب نحو رأسه، مُدركًا الحقيقة المؤلمة، أن عمره أوشك على الانقضاء، استخدم آخر وسائله في استجداء شفقته:
    -يا كبير، طب ورحمة الهجام الكبير ما...
    لم يتم جملته للنهاية، فقد ضغط الهجام على الزناد لتتحرر طلقة غادرة استقرت في رأسه، وفجرتها، لتودي بحياته وتنهيها في التو، انتشرت بركة من الدماء حول الجثة المنكبة على وجهها، بصق عليه الهجام، وخاطبه كتحذيرٍ مستتر لمن يقف من الرجال:
    -غلطت لما حلفت بيه، راس أبويا محدش يحلف بيها وهو خاين.
    من بين المتابعين وقف ناجي يشاهد المشهد الدموي بصدرٍ منقبض، فبالرغم من ارتكابه لبعض الأمور المتجاوزة، إلا أنه لم يصل لهذا القدر من الإجرام والوحشية. ارتد للخلف في تلقائية بعد سماع الطلقة رغم توقعها، ردد مع نفسه في شيءٍ من التوجس، ناظرًا إلى قسوته مع الخائنين:
    -يا ساتر، ربنا ما يوقعني معاه.
    تنبه إلى صوته وجفل عندما سمعه يأمر رجاله:
    -شفوه، وادفنوه.
    علق واحد منهم مُطيعًا أمره نافذ الوجوب:
    -عُلم.
    رجفة غادرة تسللت إلى بدن ناجي وقد رأه مقبلاً عليه، خاصة أن وجهه لم يظهر عليه دليلاً لندمه على قتله، استدعى شجاعته الهاربة، وتكلم في عفويةٍ:
    -أجيلك وقت تاني يا كبير لو مشغول.
    قال الهجام في هدوءٍ بارد، كأنما لم يزهق روح أحدهم قبل لحظات معدودات:
    -لأ، أنا فاضي، دي شوية تسالي كده.
    بدأ بالسير معه نحو الخارج، ومغادرة حجرة التعذيب تلك؛ لكن اعترض طريقهما أحد الأشخاص، حيث صاح بصوتٍ شبه مندفع، كأنما على عجلةٍ من أمره:
    -يا كبير، في حد من طرف حبايبنا من عزبة العِترة عاوزك في مصلحة.
    نظر إليه بتعالٍ، ثم خاطبه في كلامٍ مبطن:
    -الأهم يقدرني، ساعتها هيلاقيني أنا والرجالة.
    ابتسم الرجل معقبًا:
    -اعتبره حاصل يا كوبارة، هافهم منه إيه الحوار وأرسيك عليه.
    لوح له بذراعه مرددًا:
    -ماشي الكلام.
    حمحم ناجي معقبًا ببسمة مهزوزة:
    -صيتك مسمع يا ريس.
    لم يخفَ على الهجام رهبته منه، وقال منتصبًا بكتفيه في عنجهيةٍ:
    -أهم حاجة في شغلانتنا الخِطرة دي هي السمعة، لو راحت، يبقى عليه العوض في الهيبة!
    لم يستطع سوى مجاراته في رأيه، وإن كان على غير وفاقٍ معه، فتحدث بعد إيماءة خفيفة من رأسه:
    -كلام موزون.
    بدت المصائر محتومة، والأقدار مكتوبة، فقط تبقى للزمن تحديد ميقاتها! تطلعت فيروزة بعينين متوجستين إلى زوجها تارة، وإلى الطريق تارة أخرى، لم يتخد مسارًا مغايرًا للمألوف، كان يقود السيارة في اتجاه بعينه، مما دفعها لسؤاله في فضولٍ متحفز:
    -إنت رايح فين؟
    أجابها في جمودٍ، وكامل نظراته القاسية على الطريق:
    -هوديكي عند أهلي.
    أدارت رأسها في اتجاهه، وتكلمت إليه في جديةٍ:.
    -ده بني آدم قذر، كل غرضه يخرب ما بينا، ما تخليهوش ينجح في ده.
    نظرة خاطفة منحها لها، كانت مليئة بالعزم والتصميم، أتبعها قوله الواضح:
    -إنتي مش محتاجة تبرري، هو نهايته وجبت.
    مرة ثانية ارتجف قلبها وارتعش من الخوف، صرخت في صوتٍ مشروخ تستجديه:
    -برضوه يا تميم؟ ليه مش عاوز تسمعني؟ مش إنت مصدقني، ومتأكد من براءتي؟
    أكد لها عدم نيته على التراجع:
    -مش هسمحله يفلت باللي عمله.
    مدت يدها، ووضعتها على جانب ذراعه، ضغطت عليه قليلاً، واستمرت في توسلها المليء بعواطفها الجياشة:
    -يا تميم أنا عاوزاك جمبي، ليه هتحرمني منك؟ وتخلي حبنا يروح.
    سكت ولم ينطق بشيء، فأضافت على نفس الوتيرة المتخمة بالمشاعر:
    - تميم إنت صبرت كتير واستحملت واستنيت عشان نكون في الآخر سوا، دلوقتي هتضيع حياتنا عشان كلب زي ده؟
    بقي على صمته المؤلم لها، وكادت تستخدم نفس الوسيلة الضاغطة عليه؛ لكنه أوقف السيارة عند مدخل بيته، وترجل منها هاتفًا بصيغة آمرة:
    -تعالي.
    سألته في لوعةٍ:
    -وإنت هتروح فين؟
    حاوطها من كتفيها بذراعه ليستحثها على التحرك معه، سارت إلى جواره متسائلة مرة أخرى:
    -إنت طالع معايا صح؟
    ربما لم تسمع رده بشكلٍ منطوق؛ لكنه اصطحبها للأعلى، فأبقت نظراتها المرتاعة عليه تراقبه عن هذا القرب، توسلته وهو يدس المفتاح في قفل باب بيت عائلته ليفتحه:
    -لو أنا غالية عندك ماتسبنيش.
    كأنما وخزته بكلمتها الأخيرة، قاوم لحظة من الضعف أمام نظراتها الخائفة ليقول في هدوءٍ مريب:
    -طول عمرك غالية.
    دفع الباب بيده الأخرى، ثم ولج إلى الداخل، ساحبًا إياها برفقٍ، فتعلقت بذراعه مجددًا، وصرخت فيه بصوتٍ شبه باكٍ:.
    -حرام عليك، عاوز تضيع نفسك؟ إن مكانش عشاني، فعشان خاطر أهلك.
    على إثر صياحها المفزع، الهادر في أرجاء الصالة، خرجت ونيسة من الداخل وهي تجرجر ساقيها، أمعنت النظر وقد ضاق ما بين حاجبيها، لتجد ابنها وزوجته ينظران إلى بعضهما البعض بشكلٍ يدعو للريبة وإثارة الشكوك، وما زاد من الهواجس بداخلها بكاء فيروزة الغريب، وعباراتها الباعثة على الشك، دنت منهما متسائلة في توجسٍ:
    -في إيه يا ولاد؟ إيه اللي حصل؟
    استدارت فيروزة ناظرة إليها لتجاوبها بما ضاعف من مخاوفها:
    -إلحقي يا طنط، حشوه، هيودي نفسه في داهية عشان واحد مايستهلش.
    امتدت يد تميم لتمسح على وجنة زوجته المبتلة بحنوٍ، فعادت لتنظر إليه برجاءٍ يقطع نياط القلوب، تنهد لافظًا الهواء من صدره، ثم خاطبها بهدوءٍ عجيب، كأنما يودعها بشكلٍ غامض:
    -إنتي هتفضلي عندي أغلى حاجة، وعمري ما أسمح لشعراية بإنها تأذيكي.
    تقدمت ونيسة نحو ابنها لتسأله بصدرٍ منقبض:.
    -رد عليا يا تميم، في إيه اللي حصل؟
    خرج من الداخل الجد سلطان، فاعتقدت فيروزة أن في وجوده السبيل لردع حفيده، ومنعه من الإقدام على مثل تلك الأفعال الخطيرة، هرولت ناحيته، وتعلقت بذراعه هاتفة فيه بصوتها المنتحب:
    -يا جدي امنعه، هيضيع بسبب كلب مايسواش.
    رفع الجد أنظاره نحوها أولاً، فأبصرها تكاد تنفطر خوفًا، قبل أن يحول ناظريه، ويتطلع إلى حفيده بتفرسٍ، منحه نظرة متسائلة دون أن يكون بحاجة لسؤاله، فما كان من تميم إلا أن جاوب في عزمٍ غير قابل للتفاوض:
    -غصب عني يا جدي، المرادي غير، وإنت عارفني.
    ضم سلطان شفتيه معًا لهنيهة، رمقه بهذه النظرة المتفاهمة، النافذة لدواخله، حرك ثغره بعدئذ قائلاً بما بدا أشبه بالنصيحة:
    -صدق قلبك يا ابني، وماتعملش إلا الصح...!
  6. omamer
    رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل السابع والستون
    من قال أن لحظات السعادة ممتدة للأبد؟ هناك فترات إخفاق، وفترات تعاسة، فترات زهو، وفترات إحباط، فترات صحو، وفترات انكسار، فترات فرح، وفترات ألم ومعاناة. أربعة أشهر مضت عليها معه ذاقت فيها صنوف الحب، وأصناف الشوق، ربما تخلل تلك المدة بعض المشاحنات البسيطة، الخلافات في وجهة النظر، والقليل من المعارضات لبعض الأمور العادية؛ لكنها في المجمل لم تصل لهذا الحد الخطير مُطلقًا!
    أمام سيل اتهامات فضل الباطلة حملقت فيروزة بعينين جاحظتين فيه، وقد بدأ جسدها في التصلب، تيبست قبضتاها على ذراع زوجها، غير مصدقة كم الافتراء الظالم المُلقى عليها، وهذه المرة الطعن المباشر في شرفها، مع فارق أنه قصد عن عمدٍ تلفيق هذا الاتهام الخسيس في وجود زوجها لتجعلها في موضع شك، واحتمالية ظنه السوء بها، وهذا جلَّ ما كانت تخشاه، أن ينساق وراء بذاءات لسانه النجس!
      طفا بقوةٍ كل ما هو بشع، سيء، مهين، ومؤلم من ذكريات على سطح ذاكرتها، فتجسدت المشاهد حيةً في مخيلتها، وتزاحمت مع مثيلاتها، لتعود إلى نقطة البداية، إلى حيث بدأ كل شيءٍ من قساوة واتهام، ضرب واعتداء، كسرة وانهزام، فأصبحت على شفير السقوط في دوامة تدمير ذاتها. لم تكن فيروزة لتتحمل خسارة آخر من منحته ثقتها، من أعطته نفسها، ومن وهبته البقية المتبقية من روحها، فقط إن صدق للحظة أنها مُدانة، وأنها باعت جسدها لغيره، حتمًا ستكون النهاية؛ لكنها مُهلكة على كل الأصعدة. ماذا عن زرع الشكوك في نفسه؟ ألن يكون ذلك كفيلاً بزعزعة أي استقرار مهما بلغ الحب بينهما مبلغه؟
    تحيرت، واحتارت، وتشتت، وانهارت، فعجزت عن النطق، ووصلت إلى حالةٍ من الجمود الإجباري، ذلك الحجاب الذي يفرضه عقلها قسرًا عليها، ليجعلها فاقدة للإدراك الحسي، فتصبح جسدًا بل روح، عادت فيروزة إلى تلك الحالة المرضية التي كانت تصيبها عندما لا تتحمل مواجهة حقيقة شديدة الإيلام تصدمها بالواقع، متوقعة أن النهاية قد باتت وشيكة، وشيكة للغاية، والخسارة حقًا لن تُحتمل مهما ادعت قدرتها على تجاوز الأزمة، الهروب كان سبيلها، وإن كان مؤقتًا!
    أحس تميم بزوجته تتخشب وهي متعلقه بذراعه، شعر بانتفاضات متشنجة تصيبها، فالتفت ينظر لها سريعًا فرأى وجهها شاحبًا، تعبيراتها جامدة، ونظراتها متسعة في جحوظٍ، والأهم أنها فارغة من الحياة. أدرك حينئذ –وبعد معاهدته لمعظم نوباتها- أنها تمر بأزمة أخرى جديدة؛ لكنها أشد وطأة في شراستها، جذبها بتخوفٍ لم يظهره إلى صدره، وحاوطها بذراعه بعد أن استله من أسفل قبضتيها ليحول دون سقوطها. تابع فضل ما يفعله بتشفٍ، وهتف في استفزازٍ:.
    -شكلها قصرت معاك!
    هدر به تميم لاعنًا بنظراتٍ توحشت على الأخير:
    -أنا هدفنك بالحيا بعد ما أقطع لسانك ده يا (، ).
    تصنع الضحك، وعلق في سخريةٍ:
    -ولا تقدر، بدل ما تتشطر عليا، وتعمل فيها راجل، لِم مراتك.
    التقطت يد تميم الأخرى مطفأة السجائر في خفةٍ، ثم قذفها في وجهه بقوةٍ، فأصابت أنفه، وجعلته يتأوه من الألم، استغل التهائه ليبعد فيروزة عن مرمى بصره، وسحبها للخلف بذراعه المحكمة حول جسدها، كأنما يريد أن يؤكد لها بوجوده إلى جوارها، ومع هذا القرب الشديد، أنه ملاذها الآمن، ودرعها الحصين، والقادر على الذود عنها باستبسالٍ واستماتة، حتى الرمق الأخير. ظل يضمها في هذه الثواني الحرجة، كأنما يريدها أن تنزوي بين ضلوعه، فتختبئ من المخاطر المحاصرة بها، إلى أن يدرأ عنها الأذى بكافة أشكاله وصوره.
    واصل تميم تهديده اللفظي له:
    -نهايتك على إيدي النهاردة.
    تحسس فضل التورم البارز في أنفه، وهتف هازئًا:
    -إنت أخرك كلمتين وبس...
    صمت تميم لانشغاله بدفقةٍ أخرى من التشنجات الخفيفة التي نالت من جسد زوجته الغائبة عن الوعي، احتواها بذراعيه، وحاول السيطرة على نوبتها، فاعتقد فضل أنه في موضع قوةٍ بسكوت الأول، وغمرته حالة من الشعور بنشوة الانتصار، خاصة أنه اعتبر ما يردده من عبارات مهددة عن انتقامه الأرعن منه مجرد هذيان فارغ، لن يحدث أبدًا، فرك أنفه، ونفخ أوداجه مرددًا في حقارةٍ:
    -عشان تحس إنك راجل قصاد واحدة آ...
    لم يتم جملته الموحية بإهانة فجة للنهاية، فقد سبقته يد تميم التي أمسكت بمزهرية صغيرة، ليقذفها في وجهه بكل ما يعتريه في هذه اللحظة من غضب وغليل مشتعلٍ بصدره، فأصابته إصابة مباشرة في حاجبه، وجعلت خيطًا عريضًا من الدماء يتفجر فيه، وينزف بغزارةٍ، ليغرق صدغه، اعتقد فضل أنه قد أطاح بعينه، وراح يتحسسها بهلعٍ كبير، ناظرًا إلى الدماء المصبوغة على أصابعه، في حين اندفعت آمنة هي الأخرى مدافعة عن ابنتها، بغريزة أمومية انتفضت فيها:.
    -اتقي الله، إنت كداب وضلالي، أنا بنتي مش كده!
    رد عليها بحرقةٍ:
    -اقلب القِدرة على فومها.
    شهقت مستنكرة بشاعة لسانه القاذف بالاتهامات الباطلة، وتطلعت إليه مصعوقة، غير مصدقة ما يردده ببذاءة مستبيحًا الخوض في الأعراض بمثل هذا الفجور. لم يكن فضل قد أفاق بعد من إصابته الأولى، إلا وقد تلقى أخرى جعلته يصرخ عاليًا من شدة الألم، حيث وجد مدية تميم مقذوفة في اتجاهه، وأصابت هدفها في التو، وغرزت بعمقٍ في كتفه، مما جعل صدى صراخته يبدو كعويل النساء المكلومات. لم يستطع كبح صوت صرخاته الموجوعة، ولم يقدر على المساس بالمدية المغروزة، تركها في مكانها دون أن يمسها، ليشرع بعدها مستدعيًا بعض الرجال المستأجرين، ممن اتفق معهم سابقًا على الصعود، والوقوف إلى جواره، عندما تتطلب الحاجة لذلك، وها قد أتى دورهم ليعينوه على شره!
      استدعاهم فضل برنةٍ من هاتفه المحمول، فجاءوا ملبيين النداء في الحال، اقتحموا المنزل بعصيهم، وسلاسلهم الحديدية، مع بعض الأسلحة البيضاء، وتفشوا في أرجاء الصالة كالجراد المنتشر، ليحاوطوا ب تميم وزوجته، ويشكلوا حائطًا بشريًا، يمنع كائنًا من كان من الاقتراب من ربِ عملهم الحالي، ارتاعت آمنة من هيئتهم الإجرامية، وفزعت بشدة لما وجدته في إيديهم من أدوات قتل بدائية، شهقت صارخة في هلعٍ، وانكمشت على نفسها، لتستحثها غريزة البقاء على التحرك، فأسرعت في خطاها مختبأة خلف ظهر تميم، الملجأ والملتجأ لكل من هو مستضعف، كان الأخير ينظر باستهجانٍ حارق إلى ما يفعله هذا الوغد الحقير، يحاول تقييم الأمور في رويةٍ وتعقل، فحياة الأبرياء على المحك!
    تخطى فضل في فجوره أي تصورٍ، وفاق في تنديسه حرمات المنزل أي تخيل، كيف بلغت به الجراءة أن يقوم بهذه الأفعال المستنكرة مع من تجمعه صلة الدم المباشرة؟ فماذا إن كان غريبًا عنه؟ أي انحطاطٍ وصل إليه بتصرفاته الماجنة؟!
    وكأنه استعاد شيئًا من كرامته المبعثرة بتواجدهم حوله، فنطق فضل بتفاخرٍ:
    -جيتم في وقتكم.
    رد عليه تميم بهديرٍ مجللٍ، قاصدًا إهانته، رغم احتمائه وسط هؤلاء المجرمين:
    -جايب اللي تتحمى فيه يا (، )؟!
    اشرأب بعنقه ليتمكن من النظر إليه من خلف أظهر عتاة الإجرام، ورد عليه في نبرة يشوبها الألم:
    -ما أنا عارفك، إيدك طارشة، والصراحة مش ضاربة معايا أتخرشم، وأنا راجل داخل على وش جواز، من بنت بنوت، لسه بشوكتها، مش واحدة طريقها سالك لكل حد ماشي عليه.
    هدر به تميم بصوتٍ مجلل به كل الوعيد:
    -هتموت على إيدي، وهفصل رقبتك عن جسمك.
    استمر فضل في استفزازه علنًا وفي حضرة هؤلاء، معتقدًا أنهم يمنعون بطشه عنه:.
    -بدل ما تقطعلي رقبتي، ادبحها هي، تلاقيها مقرطساك.
    لو كانت النظرات تحرق لأصبح فضل في التوِ رمادًا متناثرًا، تعصف به الرياح، فيتبخر في الهواء، ولا يبقى له أي أثر، هاج تميم متوعدًا بشراسةٍ منقطعة النظير:
    -إنت ساعاتك في الدنيا معدودة!
    تساءل أحد المجرمين في تحفزٍ، وهو يرفع عصاه الغليظة في الهواء، كتهديدٍ صريح:
    -أؤمر يا ريس ونجيب خبر كل اللي هنا.
    ضحك بافتعالٍ، وقال مدعيًا عدم اكتراثه:.
    -سيبوه يهلفط، ما هي الشيلة تقيلة...
    ثم أمسك بقطعة الثياب التحتية، وقذف بها عند قدميه، بعد أن أشار لأحد الرجال بالتحرك جانبًا، كأنه يعطيه دليل الإدانة، ليضيف بعدها في تهكمٍ سافر:
    -خده، جايز ينفعك.
    لولا وجود زوجته في أحضانه، ووالدتها المغلوبة على أمرها خلفه، طالبة لحمايته، لانقض في الحال عليه، زاهقًا روحه، ولما تركه على قيد الحياة، غير عابئ بمن حوله من أكثر البشر شرًا. نظرات تميم وحدها كانت كفيلة بإفزاع فضل، ففر هاربًا ومختبئًا خلف الحائط البشري، وهو غير قادرٌ على إخراج المدية من لحم كتفه، ظل يردد بصوتٍ شبه ساخر رغم حشرجته:
    -ياما كان نفسي فيك يا بلح، بس طلعت لا مؤاخذة آ...
    افتعل الضحك قبل أن يختفي عن المشهد، متعمدًا إتلاف أعصاب تميم بصوته المنفر، وجعل حمئته الذكورية كرجلٍ شرقي تثور، ويثأر لنفسه بقتل زوجته اعتقادًا منه أنها غارقة حتى النخاع في الخيانة، هكذا أوهم نفسه، وظن أنه نجح في ذلك.
    كل شيءٍ قابل للتغير إلا شرور النفس وخبثها، حين تتمكن من الشخص، وتصبح سمة متأصلة فيها، حينئذ يتحول لكتلة ملعونة تُفسد من تطالها! كانت لحظات سريعة في مرورها، عصيبة في الإحساس بها! بمجرد أن غادر فضل ومن معه من معتادي الإجرام منزلها، هرولت آمنة نحو باب المنزل توصده، كأنما تخشى بشدة من احتمالية عودتهم، وتهديدهم مرة أخرى بشكلٍ أوقع وأقسى.
    تنفست الصعداء، وراحت تسحب شهيقًا وراء الآخر، لتثبط به من كم انفعالات الرهبة المسيطرة عليها، ثم كفكفت دمعها المنساب بكفيها، لتستدير بعدها ناظرة إلى تميم الذي انحنى حاملاً زوجته بين ذراعيه، لم تجد أثرًا لقطعة الثياب التي ألقاها أرضًا، نفضت حيرتها، وانتبهت مجددًا إليه، شيعته بنظراتها الملتاعة وهو يدخلها إلى غرفتها، لتبدأ بعدها في السير المتعجل واللحاق به، تسمرت عند سريرها وقد رأته يمددها عليه، شملته بنظراتها الحزينة هاتفة بنبرة مدافعة:.
    -والله العظيم ده واد كداب، بنتي مش كده، هي مظلومة.
    سكت ظاهريًا، ولم يسكن ما بداخله من عواصف مهتاجة، كررت كلامها من جديد بتوسلٍ:
    -ماتصدقوش يا ابني، عُمر ما فيروزة تعمل الغلط، هو ضلالي، وعاوز يخرب عليكم!
    كأنها تُحادث الفراغ، لم يلتفت تميم ناحيتها، وبقي يوليها ظهره، نادته بصوتٍ أمومي يحمل كل الرجاء في طياته:
    - تميم يا ابني.
    لم يكن بحاجة لسماع كلامها هذا ليصدق من هي زوجته، هو يعلم تمام العلم مدى نقاء سريرتها، ومدى طُهرها، ناهيك عن معرفته بسر عفتها، هذا الأمر الذي أبقاه طي الكتمان رغم فرحته العارمة بكونه أول رجلٍ في حياتها. استقام واقفًا، ومنحها تلك النظرة المميتة، المليئة بكل ما يستعر فيه من غضبٍ وحنق، قبل أن يدمدم بهسيسٍ ثقيل:
    -النهاردة هاجيب أجله.
    هتفت مذعورة تستجديه:
    -لأ يا تميم، ماتوديش نفسك في داهية.
    الكلام المسترسل دون تنفيذٍ فعلي على أرض الواقع لن يأتي بمفعوله مع أمثاله، مثله يحتاج لعقاب رادع يقضي عليه نهائيًا، وقد آن وقت حصاد رأسه الخبيث!
    أخفت الظلمة السائدة في عينيه خوفه النابع من قلبه على زوجته الراقدة أمامه، لا حول لها ولا قوة، حل تميم ربطة حجاب رأسها، وأرخاه عن عنقها، ثم جلس على الطرف قريبًا منها، امتدت يده لتدلك برفقٍ وجنتها الباردة، باعثًا الدفء على بشرتها، ناداها رغم اختناق صوته بغليله الثائر فيه:
    - فيروزة ...
    صمت لهنيهة ليضبط نبرته، ثم تابع في ثباتٍ عجيب، كأنما يريدها أن تتبع صوته في غياباتها:
    -أنا عارف إنك سمعاني...
    أحنى جسده عليها، وأمال رأسه ناحية وجهها، ليبدو صوته قريبًا، مؤثرًا، ونافذًا إلى أعماقها، لعله يرشدها في ضلالاتها لنقطة العودة إلى إدراكها:
    -إنتي أشرف واحدة عرفتها، فخر لأي حد يعرفك.
    لامست شفتاه جبينها، وراح يتابع كلامه في صوتٍ خفيض:
    -وعمري ما هصدق أي حاجة تتقال عنك.
    تراجع عنها مسافة بسيطة لينظر إليها ملء عينيه، لدهشته! وجد العبرات تنساب من طرفيها وسط هذا الجمود المخيف المقيد لبدنها، اعتصر الألم قلبه، وأضناه، كأنما قد طعنه أحدهم فيه بوخزاتٍ قاتلة، مسح بيده ما بلل خديها، وهتف قاطعًا وعدًا لن يقبل مُطلقًا بالتراجع عنه:
    -حقك هاجيبه، ولو فيها موتي!
    نهض من مكانه، واستقام واقفًا ليبدو أكثر شموخًا، صلابة، وقسوة عن ذي قبل، أخرج هاتفه المحمول من جيبه، وعبث في قائمة الأسماء لديه، باحثًا عن اسمٍ بعينه، هاتف أولاً الطبيبة ريم ؛ لكن تعذر عليه الوصول إليها، فرقمها كان خارج التغطية، لعن في صوتٍ خفيض عدم قدرته على التواصل معها، وأدار رأسه محدقًا في وجه آمنة التي كانت تبكي ابنتها في حسرة وهي جالسة عند الطرف الآخر من الفراش، تحفز في وقفته المنتصبة واشتاط مرة أخرى عندما سمعها تنوح بانكسارٍ:.
    -اشمعنى إنتي يا بنتي اللي بيتعمل فيكي كده؟ ليه الكل دايمًا جاي عليكي؟!
    مهما حاول ما زال عاجزًا عن تهدئة انفعالاته المستثارة، وتثبيط انفعالاته الهائجة، بالكاد كان يحاول الظهور بمظهر المتعقل المسيطر على الأمور؛ لكنه كان على المحك، يوشك على الانفجار في أي لحظة. سحب شهيقًا عميقًا لفظه دفعة واحدة، وسألها في صوتٍ جاف خالٍ من الضعف:
    -هو الدوا بتاع فيروزة لسه عندك؟
    استغرقها الأمر لحظة لتركز معه، أزاحت بظهر كفها دموعها المتدفقة، وأجابته بإيماءة مصحوبة من رأسها:
    -أيوه، أنا عيناه في درج الكومدينو عندي في الأوضة.
    هتف يأمرها بصوتٍ لا يُرد:
    -هاتيه نديها منه على طول.
    قامت واقفة على قدميها، وأطاعته قائلة:
    -حاضر يا ابني.
    انصرف من غرفتها وهي شبه تركض لتأتي له بما طلب، بينما ظل تميم باقيًا في موضعه يرمق فيروزة بنظراتٍ مطولة، جمعت بين اللوعة، والرغبة في الانتقام.
    غالب مشاعره المتأثرة بوهنها، وبدأ في تحكيم صوت العقل، ليستغرق في أفكاره المتصارعة، محاولاً ترتيبها ليصل إلى الطريقة المُثلى في تحقيق انتقامه العنيف. فرك تميم رأسه المضغوط بكفيه، مانعًا نفسه من فقدان السيطرة على ما تبقى به من انضباط مهدد بالانهيار، من الجيد أن الصغيرة رقية وأبيها كانا غير متواجدين بالمنزل، وإلا لتحولت الأمور لفوضى عارمة!
    طرأ بباله أحد الأسماء المحظور عليه التواصل معه بأي شكلٍ، لكون شره مستفحلاً، ووحشيًا للغاية؛ لكن لا مناص من مخالفة الاتفاق، والوصول إليه في التو، لم يفكر مرتين، وإلا لأظهر تردده وتراجع عما انتواه، نظرًا لحساسية الوضع المحيط بزوجته. اتصل ب ناجي قائلاً دون تمهيدٍ:
    -فضيلي نفسك حالاً.
    جاءه صوته متسائلاً في اهتمامٍ:
    -ليه يا ريسنا؟
    أجابه بعينين غائمتين، وبنبرة ثابتة، باعثة على القلق:.
    -عاوزك توصل لكبير الهجامة.
    هتف ناجي مصدومًا:
    -مين؟
    قال بنفس الثبات الجاد، والممزوج بالعزم:
    -اللي سمعته، رتبلي أعدة معاه، والنهاردة!
    ظهر التردد على صوت ناجي وهو يخاطبه:
    -ماشي، بس ده آ، هايبقى صعب شوية، إنت عارف الجماعة دول خطرين...
    بدا غير مبالٍ بتحذيره المتواري، ورد عليه متسائلاً بتصميم:
    -هتعرف توصله ولا لأ؟
    أجابه بعد سكوتٍ طفيف:
    -أيوه، بس إنت عاوز كبيرهم ليه؟ لو في مصلحة نقدر نقوم بيها قولي، وآ..
    دون إعطائه أي تفاصيلٍ مشبعة لفضوله المستريب، قاطعه تميم بصوتٍ مبتئس، يؤكد على حتمية تنفيذه:
    -اللي أمرتك بيه تعمله وإنت ساكت، مفهوم؟
    لم ينتظر تعليقه، أو حتى مسايرته في الحوار، أغلق الاتصال فجأة، وكل ما فيه يدعو للثأر الفوري ممن نهش في عرض زوجته بافترائه المهترئ!
    بكت بكاء المعذب العاجز عن إظهار براءته، ومن حوله يؤكدون إدانته بلا دليلٍ، إلى أن أتت نجدة السماء، فكان اتصالها المُلح، والذي لم تتنبه إليه في البداية، لانشغالها بما يحدث مع ابنتها؛ لكن ما إن سمعت رنين الهاتف، ونظرت إلى الرقم الغريب الذي لم يتوقف عن الرنين، حتى أجابت عليه، تفاجأت بسماع صوت سعاد، وهتفت قائلة بلهاثٍ:
    -كويس إنك اتكلمتي في وقتك.
    نطقت الأخيرة تحذرها في تشددٍ، وبصوتٍ مرتفع -أقرب للصراخ- بات مسموعًا ل تميم أيضًا:
    -خدي بالك يا آمنة، فضل شكله ناوي على نية سودة لبنتك...
    تقدمت آمنة بالهاتف ناحية زوج ابنتها، ليسمع بوضوح ما تنطق به، فالتقطت أذناه كلامها القائل:
    -أنا سمعاه بنفسي بيتفق مع كام حد يجوا لعندك.
    طلبت منها في تلهفٍ بعد أن لامست دليل براءة ابنتها باعترافها النزق:
    -عيدي الكلام ده تاني.
    في صبرٍ نافذ كررت عليها:.
    -بقولك فضل ناوي يعمل في بنتك حاجة، حلفان يأذيها، ويطلع عليها القرافة، خدي بالك منها، ده بقى شيطان ماشي على الأرض.
    عندئذ اختطف تميم الهاتف من يد حماته، ووضعه على أذنه صائحًا بانفعالٍ يحوي تهديدًا صريحًا:
    -شوفي يا حاجة ابنك طالع النهاردة القرافة، ويا أنا يا هو!
    لم يكترث بشهقاتها المصدومة، ولا بالهمهمات الجانبية الصادرة حولها، أعاد الهاتف إلى آمنة، وتراجع مبتعدًا قبل أن يخرج عن طور سكونه الزائف. أنهت معها الاتصال في عجالةٍ، وتبعته قائلة بصدرٍ متهدج:
    -سمعت بنفسك؟ شوفت كان ناوي على إيه من الأول؟
    لم يقم وزنًا لكلامها، ورد بصوتٍ اخشوشن على الأخير:
    -كل ده مايهمنيش، هو قضى على اللي باقي من عمره لما فكر يمس مراتي!
    صوته المحفوف بهذا الهدير جعلها ترتجف، ترتعب من تخيل ما يمكن أن يفعله به، وتبعات ذلك على مستقبله، أدركت أنه لن يمرر الأمر على خير أبدًا، لذا توسلته في توجسٍ مرعوب:
    -بلاش تضيع نفسك عشان واحد زي ده، هي نيته من الأول وِحشة، ماتخليهوش يخسرك كل حاجة في لحظة طيش، إنت عندك بيت، وعيلة، ومراتك اللي بتحبك.
    لم تشفع توسلاتها في ردعه عن الإقدام على ما ناواه، أعاقه فقط عن التحرك حالته زوجته غير المستقرة، تمهل مضطرًا إلى أن يطمئن عليها، وخلال فترة سكونها الإجبارية أجرى عدة اتصالات هامة، رتب فيها أوضاعه لمقابلة من يعرف عنه بزعيم الهجامة، غير مبالٍ بسماع آمنة لمعلومات مقتضبة عما سيفعله، فكل شيء في لحظة أصبح قاب قوسين أو أدنى من التحطم والانهيار.
    بعد وقتٍ مضى عليه بطيئًا، استفاقت فيروزة من إغماءتها، بتقليب رأسها يمينًا، ويسارًا، قبل أن تصدر من بين شفتيها تأويهةٍ محملة بالأنات، ليتبعها صوتها المنادي بتحشرجٍ:
    - تميم!
    كان الصوت خفيضًا بعيدًا، ازداد وضوحًا عندما كررت مرة ثانية:
    -ما تصدقوش يا تميم!
    جلس من فوره على طرف الفراش، وقد تركزت عيناه عليها، هزها برفق وهو يبادلها النداء:
    - فيروزة!
    بمجرد أن تسللت نبرته المألوفة إلى إدراكها الحسي، انتفضت مندفعة للأمام، وهي ما تزال تصرخ باسمه:
    - تميم!
    جحظت بعينيها في فزعٍ، والعرق البارد يتصبب بغزازة من جسدها، لهثت بصدرٍ ناهج، كأنما قد خرجت لتوها من سباقٍ للعدو، ارتعشت شفتاها وهي تقول بصوتٍ تحول للبكاء:
    -ده كداب، مفتري، وآ...
    قاطعها قبل أن تتم جملتها للنهاية مؤكدًا:
    -أنا مصدقك إنتي!
    اندفعت إلى حضنه المفتوح أمامها، وارتمت فيه، باحثة عن أمانها المفقود بين ذراعيه، ضمها إلى صدره، وألصقها به، تاركًا إياها تبكي على كتفه في حرقةٍ وقهر، ورغم ما يعتريه حاليًا من مشاعر متأججة مستعرة، إلا أنه تعامل مع زوجته بهدوءٍ احتوى ما يربد بها حاليًا من اضطراب وخوف. سكنت قليلاً ورأسها مسنودة على كتفه، في تلك اللحظة بالذات لم تجد من الكلمات ما تعبر به عما يجوس بداخلها من أحاسيس مختلطة، ما بين الخوف والأمان، الرهبة والاطمئنان.
    اشتدت ضمته، وأحست بقوته تُعيد إليها ما ظنت أنها فقدته، كادت تستكين كليًا لولا أن همس لها بعزمٍ أرعبها:
    -حقك هاجيبه.
    نبرة صوته أوحت بأنه لا ينوي خيرًا على أدنى الأصعدة، حتمًا سيلقي بنفسه في التهلكة من أجل حمايتها، ويا ليته ما يفعل! أرجعت ظهرها للخلف لتنظر إليه بارتياعٍ من وسط غيمة الدموع المنتشرة في حدقتيها، سألته بقلبٍ يقصف بعنفٍ في التياعٍ:
    -إنت هتعمل إيه بالظبط؟
    لم يجبها، مما ضاعف المخاوف بداخلها، وجعل دبيب الخوف يتفشى أكثر في كامل وجدانها، هتفت به تستجديه:
    -ما توديش نفسك في داهية يا تميم عشان واحد جبان زي ده، أنا...
    انقطع صوتها وتحشرج، فقاومت بكائها الوشيك قدر المستطاع لتخبره بلوعةٍ حقيقية:
    -أنا عاوزاك جمبي.
    النظرة القاسية في عينيه أكدت أنه لن يتراجع على الإطلاق مهما ذرفت من عبرات، استعطفته بصوتٍ تحول للهاث من بين نهنهات بكائها:.
    -يا تميم ده هيخليك باللي عمله نخسر بعض، وهو ده اللي عايزه في الأساس.
    لم يبتسم، ولم تلن ملامحه، بدا وجهه كالصخر جامدًا، غير مقروء التعبيرات، امتدت يداه لتحتضن وجهها المرتجف، نظر لها مليًا، وقال بصوتٍ لا يحمل الشفقة، وبتصميمٍ قذف الرعب ليس فقط في قلبها:
    -هريحك منه نهائي...!
  7. omamer
    رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل السادس والستون
    خلف الأبواب الموصدة، وعلى متكئٍ بعينه، حين يلتقي الجسد بوليفه المكمل له، وتعانق الروح مثيلتها، فإذ بالجليد ينصهر، والفوارق تتلاشى، حتى الحواجز تتكسر وتنمحق، عندئذ يصبحان ككيانٍ متحد، تجمعهما المودة والرحمة، ويزداد ما بينهما عمقًا! انزوت فيروزة في أحضان زوجها، يحتضنها من ظهرها، ويضمها بذراعيه إلى صدره، وهما ينامان متجاوران بالفراش، شعرت وهي تتململ داخله، بمدى التجاذب بينهما، باشتعال شرارة الحب كلما ظنت أنها ستخبو بلقاءٍ حميمي، كانت اللهفة تتجدد قبل اللقاء، وتتحول لنوعٍ من الدفء المغري بعد الامتلاء.
    لم يكن ما يمارساه معًا عنفًا بغيضًا يدعو للنفور والهجر في الفراش، بل هي مناوشاتٍ لطيفة، ومداعبات شقية، تستثير الحواس الكامنة، وتستحث الخلايا المقاتلة، على الاستسلام طواعيةً، والتخلي عن الدفاعات الحصينة، للاستمتاع بما شرعه المولى وأحله بين الزوجين. رجفة لذيذة أصابت جسدها حينما ارتفعت ذراع تميم للأعلى لتمسد على شعرها بحنوٍ، وصوته يهمس في أذنها متسائلاً:
    -مبسوطة؟
      أجابت مبتسمة في رقةٍ، رغم يقينها أنه لن يرى تعابير وجهها:
    -أيوه.
    امتدت لمساته الحنون على طول كتفها، وانخفضت نحو ندوبها، قشعريرة أخرى نالت منها جعلت قلبها يرعد وهو يتلمسها بحذرٍ شديد، كأنه يُعاود تشكيلها على طريقته، ذابت مع سحر اللمسات، وانتشت مع تأثير حرارة الأنفاس على جلدها، سرعان ما خفت حركة يده عندما باغتته متسائلة في رنةٍ من العتاب:
    -بس ماينفعش كل مرة تعمل معايا كده...
    توقف عما يفعل، وانتبه لها كليًا وهي تكمل بضيقٍ محسوسٍ في صوتها:
    -أنا بحس بقلة قيمة ليا، وخصوصًا أنا مش عيلة صغيرة!
    ارتفع عنها مرة واحدة لينظر إليها بعد أن شعرت به يتصلب مشدوهًا، التفتت ناحيته، واستلقت على ظهرها، لتكون الرؤية واضحة ومباشرة، وجدت علامات الجدية مطبوعة على ملامحه قبل نظراته المسلطة عليها. أخبرها تميم دون أن يرف له جفن:.
    -أنا عمري ما أقل منك، ولو في حاجة بتضايقك مني يبقى بلاش منها من الأساس.
    صححت له بتوترٍ ملحوظ:
    -مش قصدي، بس أنا مش عايزة ده يكون الأسلوب بينا دايمًا.
    لانت تعابيره المشدودة، وخاطبها بودٍ وهو يرسم ابتسامة صغيرة على محياه:
    -حبيبتي، كل يهمني إنتي وبس، وأنا كان كل غرضي أناغشك، وأهزر معاكي، وزي ما قولتلك اللي يضايقك مش هعمله.
    تدللت عليه، وامتدت يداها لتتعلق بعنقه، ثم غازلته بنظرة شبه عابثة:.
    -مش أوي، بس بالراحة عليا.
    أحنى رأسه على وجهها ليلثم شفتيها بخاصته، وأعطاها قبلة رقيقة مشوقة وفي نفس الآن معتذرة، قبل أن يتراجع عنها مفصحًا أيضًا بهذا:
    -حقك عليا.
    استغلت الفرصة لتعاتبه مرة ثانية عما بدر منه، فأضافت:
    -طب ووقفتك مع الست إياها؟
    ضحكت عيناه، وقال باسمًا بطريقة باعثة على الإغواء:
    -مافيش واحدة غيرك تملى عيني، حتى لو كانت مين، وبعدين حد يبقى معاه القمر ويبص فوق في السما؟!
    أشعرها ذلك بالرضا التام عن حالها، فانتعش قلبها، وفاض بما امتلأ به من سرورٍ عظيم. قبلة أخرى منحها لها، قبل أن ينهض عنها هاتفًا:
    -قومي يا حبيبتي غيري هدومك وخدي دش، عشان تبقي على راحتك.
    التفكير في مغادرة الغرفة الآن، بعد نوبة الحب المتجددة بينهما كان مستحيلاً بالنسبة لها، أخفت وجهها خلف كفيها، وصاحت رافضة بحرجٍ شديد:
    -لأ مش هينفع، أهلك هيقولوا عني إيه؟ أكيد فاهمين اللي حاصل بينا.
    ابتسم قائلاً في هدوءٍ، رغم رغبته العارمة في الضحك:
    -متقلقيش ده بيتك التاني.
    أمسك تميم بمعصميها ليبعدهما عن وجهها، وأصر عليها:
    -قومي يالا، محدش هيقولك حاجة.
    قاومته قدر استطاعتها، وردت بعنادٍ:
    -مش هايحصل.
    اقترح بتلقائيةٍ:
    -أشيلك وأخرج طيب؟
    هتفت محتجة على الفور، وهي تنكمش على نفسها من شدة حرجها لمجرد تخيل إقدامه على تنفيذ الأمر:
    -لأ، إياك!
    أرخى قبضتيه عنها، وتركها مستقيمًا في وقفته، ليلح عليها:.
    -طب قومي من نفسك بقى.
    اعتدلت في رقدتها، وسألته بتشككٍ، وهي تجمع بكلتا يديها خصلات شعرها النافرة معًا:
    -إنت متأكد محدش هيعلق؟
    نظر لها مليًا كأنما يفكر في الأمر، ثم وضع يده أسفل ذقنه، وأجاب متصنعًا الجدية:
    -بصي هي أمي هتبصلك وهي بتضحك، وجدي هيرمي كلمتين ينأرزني بيهم، وأبويا احتمال يطردنا، ويقول بيتي الطاهر ده مايحصلش فيه الدلع ده غير وأنا مش موجود.
    لم تعرف فيروزة إن كانت تضحك، أم تغرق في خجلها أكثر؛ لكن على كل الأوضاع كانت مبتهجة من حياتها الجديدة، خاصة أنها أصبحت رسميًا جزءًا أساسيًا ينتميي لتلك العائلة الأصيلة. استجمعت جأشها، وراحت تمازحه وهي تمد يدها لتفتح درج الكومود باحثة عما تربط به شعرها المحلول:
    -هاقولهم إنت السبب، بتضحك عليا، وتستدرجني.
    رد بعبثيةٍ:
    -أه صح، بأمارة ما جرجرت لحد الأوضة هنا.
    على ما يبدو لم تسمع كلامه الأخير لرؤيتها ما لفت أنظارها بشدة، إنه واحدٌ من مشابك رأسها المفقودة، ذاك الذي يحمل رمز زهرة الأوركيد، التقطته بأناملها، والتفتت دفعة واحدة لتسأله في لهجةٍ يشوبها كل التحير والدهشة:
    -المشبك ده بيعمل إيه هنا؟
    أمعن النظر فيه، وصمت للحظاتٍ، كأنما يستجمع أفكاره، ليخبرها بعد ذلك بعدم تدقيق:
    -أنا لاقيته صدفة زمان، بس مش فاكر إمتي، وسبته في الدرج.
      لوهلةٍ ارتبطت الذكرى بحادثة مشاجرته مع خلود آنذاك، فنفض الأمر عن ذهنه لئلا يسود التوتر مع زوجته، فتسيء فهمه، إن اعتقدت أنه ما زال مشغول البال بها، انتشلته فيروزة من سرحانه السريع باعترافها، وهي تضعه نصب عينيه:
    -ده بتاعي
    نظر لها مندهشًا وهو يسألها:
    -بتتكلمي جد؟
    أكدت عليه بلا شكٍ:
    -أه والله، أنا مش فاكرة راح مني إمتى، بس أيام ما كنت شغالة على عربية الأكل كنت بلبسه على طول، ومعاه الطرحة الصغيرة دي.
    قالت جملتها وهي تشير إلى منديل رأسها الموضوع في نفس المكان بدرج الكومود، تقدم تميم ناحيتها لينظر إلى ما قام بجمعه عن طريق الصدفة، ارتسم على ثغره ابتسامة مغترة للغاية، وأخذ يقول في تعجبٍ:
    -سبحان الله، مين كان يصدق إني أجمع كل اللي يخصك...
    نظرت إلى عمق عينيه الصادقتين وهو يواصل مُحادثتها:
    -لأ وبعد اللي حصل ده كله، يتقفل علينا باب واحد.
    بادلته الابتسام، وعلقت في مرحٍ:
    -صدق اللي قال ما محبة إلا بعد عداوة.
    شعرت بقبضتيه تستريحان على منحنى خصرها، أعقبها قوله اللعوب الذي نفذ إلى شغاف قلبها كسهمٍ خارق:
    -طب تعالي أديكي شوية محبة غاليين من بتوعي.
    مضت الأيام والأسابيع بينهما وكلاهما يزداد قربًا ووفاقًا على نحو جيد، خاصة بعد أن طرقت السعادة باب حياتهما أخيرًا، تبقى فقط شيء بعينه كان ينغصه على نحوٍ مزعج، هذه البلورة التي تتوسط رصة الأطباق الباهضة في الرف العلوي بالنيش، كأنها جوهرة ثمينة يخشى أحدهم التفريط فيها، الغموض ما زال يحاوطها بشكلٍ يدعو للاسترابة. لم يبعد تميم ناظريه عنها بسهولة، رغم محاولاته المضنية تجاوز الأمر، وعدم إعطائه الأهمية الكبرى؛ لكنه دومًا يتذكر ارتباطها بهدية من اعتبره –مجازًا- عدوه اللدود.
    اليوم أراد حسم هذه المسألة والتكلم معها عنها، فأخذ يرتب أفكاره في رأسه بتأنٍ، كما لو كان يدرس ما المتاح لقوله، وما هو غير المسموح باستخدامه، تجنبًا لنشوب أي مشكلة بينهما قد تمتد آثارها على مدار بضعة أيامٍ، وهذا ما لن يتحمله مُطلقًا! تنبه تميم لصوتها المنادي من خلفه:
    -الأكل جاهز، تعالى قبل ما يبرد.
    استدار متطلعًا إليها وهي ترص أطباق الأرز عند كل جانب، دنا من مكان جلوسه قائلاً ببسمة باهتة نسبيًا:.
    -تسلمي يا حبيبتي.
    نظرت إليه بتفرسٍ، ثم وضعت يدها اليسرى على منتصف خصرها، وأخبرته بتفاخرٍ:
    -المرادي بقى الأكل حكاية، هيعجبك جدًا!
    رفع حاجبيه في دهشةٍ، وعلق متسائلاً بمرحٍ:
    -يعني مش زي الفرخة اللي ماتت غرقانة في الشوربة؟!
    رمقته بتلك النظرة المتحفزة وهي تصغي لتلميحه الساخر عن آخر محاولاتها الفاشلة في طهي الدجاج، صححت له بكتفين منتصبين وهي تشير بيدها:
    -هي اللي كانت بايظة وماستحملتش تتطبخ بزيادة حبتين.
    هتف مومئًا برأسه:
    -معاكي حق، هي فعلاً باظت، وماستحملتش، لدرجة إنها طقت من جنابها، ولحمها فك من العضم.
    حمحمت محتجة في غيظٍ متصاعد نسبيًا:
    -إنت بتتريق؟ قصدك إني مابعرفش أطبخ كويس؟ ده أنا كل يوم بوصفة شكل.
    رد في امتنانٍ:
    -كتر خيرك.
    عادت لتضيف في نزعة من الغرور:
    -مش معنى إن الواحدة في أول جوازها يبقى عندها كام هفوة تتمسك عليها ذِلة.
    صدحت بسمة صافية على وجهه وهو يمتدحها:.
    -لا عاش ولا كان اللي يذلك، كل اللي بيطلع من إيدك حلو.
    أصابها الكِبر من ثنائه؛ لكن ما لبث أن تبدل للتجهم وهو يتابع رافعًا كفيه للسماء، كأنما يدعو:
    -وربنا يباركلنا في بتوع الديلفري، مش متأخرين عننا الحمدلله، ده تقريبًا بقوا من العيلة.
    هددته في نبرة مغتاظة:
    -خليك كده اتريق لحد ما ألم الأطباق وماتكلش.
    تراجع عن مناكفتها هاتفًا بصوتٍ تتخلله الضحكات القصيرة:
    -هو أنا أقدر؟ هاكل وأنا ساكت يا أبلة.
    أشارت له بالجلوس وهي شبه عابسة:
    -طب اتفضل دوق الفاصوليا وقولي رأيك.
    مسح تميم مائدة الطعام بعينيه، وامتدح مرة ثانية صنيع يديها رغم عدم تذوقه بعد لأي من مأكولاتها:
    -ده كفاية إنك عملاه عشاني.
    تبدد كل العبوس من على وجهها، وحل الرضا على تقاسيمه، جلست فيروزة تتناول بشهيةٍ ما اجتهدت في إعداده من طعام، ولدهشتها تحسنت كثيرًا عما سبق، وكان المذاق طيبًا! انتظرت بشغفٍ سماع رأيه، وتطلعت إليه بنظراتٍ متلهفة، كمن يترقب إعلان نتيجة امتحانه. بلع تميم ما ملأ به جوفه، وأخبرها مبتسمًا:
    -الله على الحلاوة، تستاهلي بوسة.
    أصابها الكِبر مجددًا، وتساءلت في لؤمٍ، وهي لا تقاوم اتساع بسمتها السعيدة:.
    -بوسة واحدة بس؟
    قَهقه ضاحكًا، ثم قال:
    -دستة بحالها، وإن شاءالله ما حد حوش.
    شاركته الضحك، وتناول معًا الطعام وهما يتسامران تارة، ويمزحان تارة أخرى، إلى أن فرغا كليًا منه. تعاون تميم مع زوجته في جمع الصحون المتسخة، والأطباق المليئة بالبقايا، ونقلها إلى المطبخ لتقوم بتنظيفها، فكر لوهلةٍ في اقتناص فرصة مزاجها الرائق، وسؤالها عما يؤرق تفكيره، لذا استطرد مُمهدًا بتريثٍ شديد الحذر، وهو يزيح البقايا في سلة القمامة:
    -إيه رأيك لو غيرنا مكان النيش؟
    سألته دون أن تنظر إليه، لانشغالها في غسل الصحون:
    -هنحطه فين؟ ما احنا من الأول قولنا ده المكان المناسب ليه.
    أخبرها بلمحةٍ من التردد:
    -من باب التجديد.
    قالت معترضة بلا تغيير في نبرتها:
    -هو احنا لحقنا؟
    بلع ريقه، وتابع بحذرٍ واضح:
    -أصل أنا شايف إنه عامل زحمة على الفاضي، ومضيق المكان، ومعظم الحاجات اللي فيه مالهاش لازمة.
    استدارت فيروزة لتواجهه، وقالت بمرحٍ تشوبه الجدية:.
    -ده إنت ممكن تفرط في أي حاجة، إلا اللي موجود في النيش، ده ثروة قومية.
    أدرك أن المراوغة معها لن تجدي نفعًا، سيظل يلتف ويدور حول ما يريد السؤال عنه، ولن يصل في الأخير لنتيجة مفيدة، لهذا تساءل مباشرة دون احترازٍ:
    -هو صحيح البلورة اللي إنتي حاطها فيه دي شارياها؟!
    ضاقت عيناها باسترابةٍ واضحة، وسألته في صوتٍ متشكك دون أن تمنحه الجواب الذي يتحرَّق لسماعه:
    -هي مش عجباك ولا إيه؟
    سكت للحظاتٍ معدودات، يفكر فيما سيخبرها به، التحايل، وتجميل الحقائق لم يبدُ مناسبًا بعد أن حُصر في الزاوية، زفر مليًا قبل أن ينطق أخيرًا:
    -أصلي ملاحظ إنك على طول بتلمعيها، وخايفة عليها، على عكس أي حاجة تانية.
    لفتت انتباهه قائلة بوجهٍ غرق في الجدية:
    -على فكرة مش لوحدها بس، كل اللي في النيش بلمعه أول بأول عشان التراب.
    أعاد تكرار سؤاله عليها بشكلٍ أوضح:
    -إنتي شرياها ولا هدية؟
    أوجزت في ردها، فقالت:
    -هدية!
    غامت تعابيره بشكلٍ مفاجئ، وبدت نظراته أكثر ضيقًا عما مضى، فاضطرت أن تكمل:
    -دي هدية من كاران، جبهالي تذكار قبل ما أسافر وأرجع على هنا.
    لم يستطع إخفاء ردة فعله المستاءة وهو يعقب في اقتضابٍ شديد:
    -كويس.
    أكدت عليه بتوجسٍ وقد رأت ما أصابه:
    -على فكرة هي مجرد حاجة عادية.
    ادعى انشغاله بإكمال إفراغ البقايا من الأطباق، وقال:
    -تمام.
    لم تقتنع فيروزة برده أبدًا، شعرت بوجود ضغينة ما في صدره لوجود ما يربطها بالماضي الذي جاهدت لتجاوزه، وإن ادعى العكس، لهذا حسمت رأيها، أغلقت الصنبور، وجففت يديها بتعجلٍ في المنشفة المعلقة على مقبض أحد أدراج المطبخ، وأخبرته وهي تتحرك من مكانها نحو الخارج:
    - تميم لو البلورة دي هتعمل مشكلة بينا أنا ممكن أشيلها، وأعينها في أي مكان تاني.
    ناداها من ورائها لتقف:
    - فيروزة!
    لم تصغِ إليه، وتابعت مشيها المتعجل قائلة بتصميمٍ:
    -لأ خلاص، مالوش لازمة وجودها.
    اعترض على قرارها رغم ضيقه:
    -استني، طالما دي هدية عادية.
    فتحت ضلفة النيش، وشبت على قدميها لتتمكن من الوصول إلى الرف العلوي، ثم التقطتها من مكانها، وهي لا تزال تتكلم في تحفزٍ:
    -وعلى إيه أجيب لنفسي وجع الدماغ.
    نظر إليها في صمتٍ بعد أن لحق بها، فاستمرت في مخاطبته بعزمٍ:
    -أنا هبقى اديها ل رقية تلعب بيها.
    استحسن الفكرة، وارتخت تعابيره المتجهمة، وضعت فيروزة البلورة على الطاولة، وتقدمت ناحيته تسأله في جديةٍ، وكامل نظراتها المتحققة عليه:
    -ها مبسوط كده؟
    تقوست شفتاه عن بسمة عذبة وهو يخبرها بصدقٍ لم تشكك فيه أبدًا:
    -أنا مبسوط عشان إنتي معايا.
    وقفت قبالته تطالعه عن قربٍ، فراحت يداه تداعبان جانبي ذراعها صعودًا وهبوطًا قبل أن تستقر عند خصرها، ضحكت من دغدغته الخفيفة على لحمها، وقالت في دلالٍ:.
    -بتعرف إزاي تخليني أعمل كل اللي إنت عاوزه.
    قربها من خصرها إليه، هاتفًا في صوتٍ يحوي الرغبة في طياته:
    -وأنا مش عاوز إلا إنتي.
    دفعته بكفيها من صدره لتمنعه من جذبها إلى أحضانه قائلة بجديةٍ:
    -طب حاسب عشان المواعين.
    ثم تجاوزته سائرة بغنجٍ، فدقق النظر في تفاصيلها المشوقة معلقًا بتوعدٍ:
    -ماشي، بس لينا لقاء بالليل يا أبلة.
    ضحكت في استمتاعٍ قبل أن تدير رأسها وترمقه بتلك النظرة الماكرة، لتتكلم بعدها بجملة موحية:.
    -أنا out of service
    فهم من تلميحها المتواري أنها في فترة إجازة إجبارية نظرًا لقدوم زائرتها اللطيفة، فصاح متذمرًا باستياء طفلٍ حانق:
    -تاني؟! هو أنا بلحق!
    هزت كتفيها مدعية قلة حيلتها، قبل أن تقول وهي تزيد من اتساع ابتسامتها المتسلية:
    -الأيام بتعدي بسرعة بقى، هعملك إيه؟
    كور قبضته، ولكز بها في ضيقٍ سطح المائدة متابعًا صياحه المغتاظ:
    -طول عمري نحس، ومبصوصلي في الشوية الحلوين اللي بقعدهم معاكي.
    ارتفع صوت ضحكاتها الرنانة وهو يقف في مكانه يلوم حظه العثر الذي يمنع –اضطراريًا- اقترابه الشغوف منها.
    سحابة وراء أخرى انطلقت بكثافةٍ من جوفه، وانتشرت في سماء الغرفة، لتعبقها كذلك برائحة الدخان الخانقة، غير مكترث بسعاله المتحشرج والمتتابع جراء ما يدخنه بشراهةٍ من مادة الحشيش. حكَّ فضل بطرف المبسم ذقنه، وراح يفكر مع نفسه بغير صوتٍ، والشرر ينتفض من حدقتيه الحمراوتين:
    -طبعًا إنتي غرقانة في العسل أديلك كام شهر مع الدغوف، وشوية وهتطلبي القرشين اللي باقيين معايا، وأبقى أنا طلعت من المولد بلا حمص.
    احتقنت نظراته أكثر وهو يواصل حديث نفسه البغيض:
    -لا نافع معايا شغل، ولا حريم، ولا حتى الهوا.
    سحب نفسًا آخرًا لفظه ببطءٍ من بين شفتيه، وتكلم في نفسه:
    -وشوية الأونطة اللي عاملهم على الناس عشان أطلع منهم بقرشين مسيرهم كمان يتكشفوا.
    شرد مجددًا في الترهات التي يسمعها هنا وهناك على ألسنة أهل بلدته، وكلها تنال منه، وتنهش في البقايا المتبقية من كرامته المهدورة، وسمعته الملطخة، تلك التي أفسدها عن عمدٍ بجريرة أفعاله، لم يحمل نفسه اللوم أبدًا، وألقى بكل أخطائه عليها وحدها؛ كأنما هي المحفز الرئيسي لارتكابه الموبقات، والوقوع في الأزمات. كز على أسنانه مدمدمًا في وعيدٍ:
    -لازم أخرب عليكي حياتك، أمرر عيشتك وأسودها.
    برقت عيناه بشيءٍ مخيف، لا يظهر إلا شرًا شديد الخبث، أتبعه قوله المغلف بالعزم:
    -مافيش إلا كده.
    التوى ثغره ببسمة منتشية، وقال في تشفٍ، وبقلبٍ يملؤه السواد الأشد:
    -إياكش يكون فيها موتك، وأبقى خلصت من فلوسك، وشفيت غليلي بالمرة.
    في بقعة معتمة بالمجهول المحاوط بها، دارت حول نفسها في دوائر عشوائية باحثة عن بصيصٍ من الضوء، لعلَّها وسط هذا الظلام المخيف تهتدي إلى طريقها، زاد دبيب الرعب في قلبها، وبدأت في تلمس مسارها حين سمعت همهمات غير واضحة تأتي من منطقةٍ قريبة منها. دققت همسة النظر في الظلال المبهمة، محاولة تبين ما تراه، انقبض قلبها بشكلٍ مخيف، وأحست ببرودة قارصة تضرب أوصالها، قاومت على قدر المستطاع هذا الشعور المفزع المتسرب إليها، وتابعت السير الحثيث؛ لكن عند منطقة ما يتخللها إنارة باهتة، انفرجت شفتاها عن صرخة غير مسموعة، خاصة عندما رأت توأمتها تركض هاربة من كلب أسود اللون، متوحش الأسنان، كان يُطاردها، صرخت مجددًا تناديها:.
    -خدي بالك يا فيروزة، ده جاي وراكي.
    حاولت الوصول إليها؛ لكن كان هناك ما يعيق قدماها، ويمنعها عن الحركة، كأنما قد أصابها الشلل، فراحت تلوح لها بذراعيها، وصوتها المحذر يجلجل في الفراغ الممتد إلى ما لا نهاية:
    -حاسبي يا فيروزة، ده بيقرب منك!
    لم تصلها تحذيراتها الهادرة، وانقض الكلب الشرس على توأمتها ناهشًا قطعة من لحم ذراعها، وصراخ الأخيرة يرن صداه المفزع في الأجواء، التاعت همسة للمنظر الشنيع، وأخذت تولول مستغيثة:
    -الحقونا، حد يغيت أختي.
    أبقت ناظريها على شقيقتها وهي تتصارع مع هذا الكلب، وصوتها لم يتوقف عن النداء وطلب النجدة حتى بح وانقطع في الأخير، عندئذ انتفضت همسة مستيقظة من نومها العميق منادية بلهاثٍ منفعل:
    - فيروزة!
    أفاق هيثم على صوتها الصادح ليلاً، وتقلب على جانبه لينظر إليها بنصف عين متسائلاً بصوتٍ ناعس:
    -في إيه يا همسة؟
    دعك عينيه قليلاً، ليتمكن من رؤية ملامحها وسط عتمة الغرفة، كرر سؤاله عليها:
    -إنتي كويسة؟
    أجابته وهي تنير المصباح الملاصق لفراشها:
    -أيوه، بس شوفت كابوس مخوفني.
    أطبق هيثم على جفنيه مانعًا الضوء من إزعاج حدقتيه اللاتين لم تعتادا بعد عليه، وقال بتثاؤبٍ:
    -استعيذي بالله، ونامي.
    أرجعت همسة ظهرها للخلف، وخاطبته بتخوفٍ:
    -أنا قلبي مقبوض، حاسة إن في حاجة هتحصل لأختي.
    نفخ في ضيقٍ، وسحب الغطاء على كتفه متسائلاً بتذمرٍ:
    -إنتي مش كنتي معاها النهاردة، وكانت كويسة؟
    جاوبته بترددٍ:
    -أيوه، بس المنام اللي شوفته آ...
    قاطعها ناصحًا في غير اكتراثٍ:
    -ماتبقيش تتقلي في الأكل قبل ما تنامي، ده اللي بيجيب الكوابيس.
    تطلعت إليه بنظراتٍ منزعجة، وقد رأته يشد الغطاء أعلى رأسه، قبل أن يأمرها:.
    -ويالا اطفي النور ده، عشان ورايا شغل كتير بكرة.
    زفرت في تأفف، وغمغمت بغير ارتياحٍ:
    -ماشي.
    أغلقت المصباح، وتمددت على ظهرها لتحدق في السقفية المعتمة، مستعيدة في ذهنها مشاهدًا لا تزال حية في مخيلتها، عاد الخوف ليحتل قلبها، ولسانها ما زال يردد برجاءٍ:
    -يا رب استر.
    وردها ذلك الاتصال المريب من والدتها، لم تفهم مغزاه، ولم تعلم منها شيئًا سوى أنها تريد رؤيتها في الحال لأمرٍ طارئ لا يحتمل التأجيل، مما اضطرها لإخبار زوجها، وطلب الإذن منه للسماح بذهابها عند بيت عائلتها. وقفت فيروزة أمام تسريحة المرآة، تنظر بتركيزٍ إلى حجاب رأسها وهي تلفه، لتتأكد من ضبط مقدمته في شكل مثلثٍ مدبب، قبل أن تكمل غلق أزرار بلوزتها الوردية، في حين جلس تميم على طرف الفراش يرتدي جواربه وهو يتساءل متعجبًا:.
    -لازمتها إيه الزيارة دي؟
    أخبرته في تحيرٍ لا يقل عنه:
    -مش عارفة، بس ماما مصممة أروح عندها حالاً، حتى مش مستنية أخلص شغلي، وأعدي عليها.
    ما لبث أن راودتها الهواجس السوداوية، فاستدارت ناظرة إلى تميم وهي تخاطبه في جزعٍ:
    -لأحسن يكون خالي تعب وهي مش عاوزة تقول.
    تفهم مخاوفها، خاصة أن صحته كانت عليلة مؤخرًا، وقال مطمئنًا إياها:
    -ربنا يستر، وتبقى حاجة بسيطة...
    ثم نهض واقفًا من موضعه، وتابع:
    -عمومًا أنا جاي معاكي.
    لم ترغب في تأخيره عن عمله، وطلبت منه بلباقةٍ:
    -مالوش لازمة تعطل نفسك، كفاية عليك توصلني، إنت مش وراك مصالح؟ وآ..
    قاطعها قائلاً بإصرارٍ:
    -مايجراش حاجة، خلينا نطمن.
    لاحظ أمارات القلق تكسو كامل تعبيراتها، فمسح برفقٍ على وجنتها مضيفًا في صوتٍ هادئ:
    -إن شاءالله خير، سبيها على الله.
    لم يختفِ التوتر من صوتها عندما ردت:
    -ونعم بالله.
    استعد تميم للذهاب معها، دون أن يبدو عليه القلق مثلها، واصطحبها إلى خارج المنزل، لينطلقًا معًا في اتجاه بيت عائلتها، ولا يعرف أحدهما ما الكارثة التي تنتظرهما هناك.
    منذ أن عرفت مصادفة بما يدبر له من مكيدة وضيعة، بناءً على اقتراحات رفاق السوء الذين كانوا يجتمعون معه يومًا بعد يوم في منزلها، لم تستطع سعاد منع نفسها من التدخل والتصرف بأي صورة، إيقافًا ومنعًا للمشاكل الجسيمة المتوقع حدوثها، جراء خططه الجهنمية، تلك الغائب عنها تفاصيلها بالضبط. أعاقها عن تحذير آمنة عدم حوزتها على هاتفٍ محمول، فابنها العاق قد أخذ خاصتها عنوة، وباعه مع هاتف زوجها ليبتاع لنفسه واحدًا جديدًا، غير مبالٍ بأمرها، فقط إحدى بناتها أتت لها بواحدٍ زهيد السعر، في نفس اليوم الذي صادف ذهابه إليها، دعت الله ورجته أشد الرجاء ألا يكون اتصالها متأخرًا، صاحت سعاد في ابنتها تنهرها:.
    -اتأكدي الرقم صح ولا لأ؟
    أخبرتها بتبرمٍ:
    -هو يامه، هي مغيرتوش من زمان.
    هتفت بها تأمرها بصبرٍ نافذ:
    -طب أطلبي عليها أومال.
    ردت بهدوءٍ مناقض للعاصفة المسيطرة على والدتها:
    -حاضر، بس تشحن البطارية.
    في استنكارٍ مغتاظ صاحت متسائلة:
    -وإنتي معكيش رصيد؟
    جاوبتها نافية ومبررة في نفس الوقت:
    -لأ، الباقة خلصانة، ما إنتي عارفة جوزي منشفها معايا حبتين من ساعة اللي عمله فضل، ده غير فضايحه اللي مالية البلد.
    ضربت سعاد على فخذيها مرددة في رجاواتٍ أكبر:
    -عديها على خير يارب.
    استمرت ابنتها في الكلام معها كأنما تُعلمها بما اتفقت عليه مع شقيقاتها:
    -احنا خلاص وكلنا محامي يجيبلنا حقوقنا يامه، مش عاوزينك تزعلي مننا، طالما المعروف مش جايب نتيجة مع أخويا.
    قالت في حدةٍ، وعقلها مشغولٌ بما يدور بعيدًا عنها:
    -اعملوا اللي تعملوه، خلاص أنا حطيت إيدي منه في الشق!
    بزفيرٍ شبه لاهث، وصدرٍ ينهج من المجهود المبذول في وقتٍ وجيز، وقفت فيروزة عند أعتاب باب منزلها، تُطالع والدتها بنظرات شمولية فاحصة، بعد أن فتحته لها، قبل أن تلتقط أنفاسها، وتسألها في لهفةٍ قلقة:
    -خير يا ماما؟ كلكم كويسين؟
    أجابتها آمنة بترددٍ كبير معكوسٍ على كامل ملامحها:
    -أه الحمدلله...
    حانت منها نظرة سريعة من فوق كتفها، لتنظر إلى زوجها الواقف خلفها، ثم جذبتها من ذراعها، لتهمس لها في تبرمٍ:.
    -إنتي جبتي جوزك معاكي ليه؟
    اندهشت من سؤالها الباعث على كل الريبة، وهتفت في استنكارٍ:
    -في إيه يا ماما؟ هو إنتي مش عاوزاه يكون موجود ولا إيه؟
    بدا وكأنها غير مُرحبة بوجوده، وظهر هذا جليًا في نبرتها وهي تخبرها بصوتها الخافت، خشية أن يسمع تميم حوارهما:
    -أصل آ...
    قاطعتها فيروزة بصبرٍ نافذٍ، وقد استحوذت عليها شكوكها:
    -ما تكلمي يا ماما على طول.
    ولج تميم لداخل الصالة متلكئًا في مشيه، ومتعجبًا في نفس الوقت من الاستقبال الفاتر من قبل حماته، على غير المعتاد منها. ألقى التحية، وانتظر في مكانه متوقعًا أن تقوم بالرد عليه؛ لكن باغت ثلاثتهم ظهور فضل من الداخل ليصيح عاليًا بنبرة أبرزت نيته غير المبشرة بالخير:
    -أصلها خايفة تقولك إن أنا هنا.
    ما إن أبصرته فيروزة حتى انفجرت صارخة في وجهه بانفعالٍ تصاعد في صدرها فجأة:
    -إنت بتعمل إيه يا حيوان في بيتنا؟!
    علق عليها بوقاحةٍ فجة وهو يتصنع الضحك لاستفزازها:
    -جاي أتملى في جمال أمك.
    أشارت له فيروزة بسبابته طاردة إياه بإهانةٍ لاذعة:
    -اطلع برا يا (، )
    بينما هدر تميم في تحفزٍ وقد تقدم في خطاه، ليتجاوز زوجته، ودمائه تغلي وتفور في حمئة شديدة الوطيس:
    -البغل النجس ده بيعمل إيه هنا؟
    نظر فضل إليهما شزرًا، كأنما يستمتع بمشهد إهانته، وقال في برودٍ قاصدًا إخراجهما عن شعورهما:.
    -بالراحة يا عريس الغفلة على نفسك، ألا يطقلك عرق!
    هدده تميم بنبرة مظلمة، وعيناه تحتقنان بشدة:
    -إنت مش عاوز ترحم نفسك من الأذى؟ إيه ما بتحرمش؟!
    حاولت فيروزة منعه من الاقتراب منه، لأنها تعلم تمام العلم أنه قادرٌ على استدراجه نحو ارتكاب جريمة ما وسط غضبه الأعمى، وتوريطه بشكلٍ تعجز فيه عن إنقاذه، فتعلقت بذراعه، وجذبته إلى الخلف بكل قوتها؛ لكن فضل استمر في استثارة أعصاب المتواجدين بتصريحه غير البريء:.
    -يا عم ده أنا جاي أخدمك خدمة العمر، وأعمل فيك معروف.
    صاح به تميم بنبرة حادة، ونظراته المزدرية تطوف عليه:
    -إنت يطلع منك معروف؟!
    كركر ضاحكًا بصورة بعثت الغثيان على النفس، قبل أن يبتر ضحكاته المفتعلة ليردد في خبثٍ:
    -مش بكشفلك حقيقة مراتك!
    اهتاجت أعصاب تميم، وارتفع هدير صوته المهدد بشدة، وهو يلوح بسبابته أمام وجهه:
    -إياك لسانك الزفر يغلط فيها.
    دس فضل يده في جيب بنطاله، ليخرج ما خبأه فيه، قبل أن ينطق في وضاعةٍ مقيتة، ونظراته النارية مسلطة عليها:
    -ده الغلط كله منها...
    أبرز قطعة ثيابها التحتية نُصب أعين ثلاثتهم، وتابع مبتسمًا بابتسامة شيطانية:
    -وبأمارة ما كانت لبسالي ده.
    شهقت فيروزة في صدمةٍ، وارتخت قبضتيها عن ذراع تميم غير مصدقة ما أحضره معها، بينما اعتلى الذهول المرتاع ملامح وجه آمنة وهي تتطلع بعينين جاحظتين إلى ما يخص ابنتها، هوى قلبها بين قدميها وهو يسألها علنًا:
    -مش ده لبس بنتك الطاهرة يا أم الشريفة ولا أنا غلطان؟!
    ردت عليه زوجة عمه متسائلة بصوتٍ مهتزٍ، بما أوحى بشيءٍ من الإدانة لابنتها:
    -إيه اللي جابه معاك؟
    لوح فضل بقطعة الثياب في الهواء مستمتعًا بما رأه من ردات فعل متباينة، وقد أيقن أن خطته أصابت هدفها، وفي مقتلٍ! ما سيقال بعد ذلك أو يبررر لن يجدي نفعًا، فالشرخ حتمًا وقع في علاقة الزوج بزوجته بمجرد بث نوازع الخيانة وزرع الشكوك فيها، أفاق من لحظة انتصاره الجلية على صوت تميم الصارخ في جنونٍ:
    -إنت اتخبلت في مخك؟
    استوعبت فيروزة ما فعله، وخرجت عن صمتها المصدوم، لتصرخ هي الأخرى بتشنجٍ واهتياج:.
    -يا قذر، يا حيوان، يا (، )!
    نظرة سريعة ألقتها على وجه زوجها المتقلص للغاية؛ كأنما استعرت نيرانِ أتونٍ من الجحيم أسفل جلده، رأت نظراته محتقنة على الأخير، كل ما فيه ينضح بغضبٍ حارق لكل ما هو حي، تحركت لتقف أمامه، ورفعت يدها لتمسك بذقنه، وتجبره على النظر إليها، ثم راحت تدافع عن نفسها باستماتةٍ وحُرقة:
    -والله العظيم ده كداب يا تميم، أنا معرفش حاجة عن اللي معاه ده!
    هتف فضل من ورائها قائلاً بسخريةٍ متهكمةٍ، كما لو كان يزيد من تأجيج النيران المحتدة:
    -قالوا للحرامي إحلف قال جالك الفرج.
    النظرة في وجه تميم في تلك اللحظة تعني رغبة أكيدة، ونية صريحة غير نادمة، في إزهاق روح أحدهم في التو؛ لكن جلَّ ما كانت تخشاه وسط هذا التهديد الخطير، هو تصديقه لكذبته الدنيئة، وانسياقه وراء حيلته المهلكة، خاصة وهو مستمرٌ في اتهامها بكل ما بذيء:.
    -احنا شباب زي بعض، قولي كانت جامدة معاك ولا مسدتش...؟!
  8. omamer
    رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الخامس والستون
    لم يكن لزامًا عليها مواساته، أو حتى ادعاء تعاطفها مع وضعه المأساوي؛ لكن شيء ما بنفسها استحثها على إظهار الدعم له، تطيب جراحه غير المرئية، مثلما كان يحدث معها، حين بدت بحاجة ماسة إلى مثل تلك المؤازرات الودية. طرقت فيروزة على باب غرفة خالها، واستأذنت بالدخول بعد أن أدارت المقبض وفتحته:
    -ممكن أخش؟
    انتبه لها خليل وهو ما زال جالسًا على مقعده المدولب، تطلع ناحيتها بنظراتٍ تَعِسة، ثم حرر زفرة ثقيلة مشحونة بالكثير في صدره قبل أن يخاطبها بصوتٍ شبه متحشرج:
    -تع، الي.
    ولجت للداخل، وأغلقت الباب في إثرها، وضعت ابتسامة لطيفة مقتضبة على ثغرها وهي تستهل حديثها معه:
    -عامل إيه يا خالي؟
    تنهد مجددًا، وقال:
    -الحم، دلله.
      اقتربت أكثر منه، وجلست على طرف الفراش لتبدو في مواجهته، ثم مدت يدها لتمسح على ذراعه المسترخي على مسند مقعده قائلة في نبرة شبه حذرة:
    -يستاهل الحمد، ماما قالتلي على اللي حصل.
    غامت عيناه، وتلبدت ملامحه أكثر وهو يعقب:
    -كل واح، د بياخد نصي، به.
    سكتت مصغية إليه في اهتمامٍ، فأكمل على نفس الوتيرة المهمومة:
    -والزمن مهما طال أو قصر الكل هيتحاس، ب.
    وافقته الرأي بهزة خفيفة من رأسها، قبل أن تؤكد على ذلك بترديدها:.
    -فعلاً يا خالي، ربنا اسمه الحكم العدل، وزي ما هو رؤوف رحيم، برضوه شديد العقاب.
    اكتفى بإيماءات بسيطة من رأسه، فتابعت متسائلة بنوعٍ من الإشفاق:
    -بس إنت ليه حابس نفسك كده؟ احنا عاوزينك معانا، و كوكي بالذات.
    عند ذِكر ابنته، انقبض قلبه في جزعٍ، لا يعلم إن كان الزمن سيمنحه الفرصة لتربيتها بالشكل الجيد الذي يطمح أن تكون عليه، لاح شبح الموت في مخيلته، وبدأت الهواجس تسيطر عليه، فانتفض موصيًا ابنة شقيقته بجديةٍ في غاية الشدة:
    -البت دي أمانة في رقبتك يا فيروزة لو جرالي حاجة.
    ارتاعت لفكرة خسارته، وهتفت في استنكارٍ:
    -بعد الشر عنك، إن شاءالله تربيها بنفسك وآ...
    قاطعها قبل أن تواصل ترديد نفس العبارات المستهلكة على الأذن:
    -علميها اللي ماعرفتش أغرسه فيها، خليها تبقى زيك.
    رغم أنها تمنت سماع مثل تلك الكلمات سابقًا، في الأوقات التي احتاجت فيها لتصديقه وثقته بها، إلا أنها نفضت عن عقلها أي ضيقٍ، وعلقت عليه محاولة الابتسام قليلاً لتخفيف توتر الأجواء:
    -هاتبقى أحسن مني كمان، بوجودك معانا يا خالي.
    بدا وكأنه قد تنفس الصعداء بعد عبارتها هذه، فبادلها بسمة باهتة، وعاد إلى صمته الحزين. لم تدعه فيروزة ينخرط في دوامة البؤس، وهتفت ناهضة من مكانها بحماسٍ:
    -يالا بقى، كفاية حبسة في الأوضة.
    أحنى رأسه على صدره، مستسلمًا لشعوره باليأس؛ لكنها ألحت عليه بتصميم أكثر عنادًا وهي تجثو على ركبتيها أمامه:
    -أنا مش هسيبك النهاردة، وجاية أقعد معاك، وأشوفك بتضحك.
    رفض بهدوءٍ:
    -مش ق، ادر.
    تصنعت العبوس، وأصرت عليه وهي تنظر إليه من موضعها:
    -كده إنت هتزعلني يا خالي، يرضيك أمشي من هنا زعلانة؟
    أمام نظراتها الحانية تخلى عن عنده، وأوجز في رده:
    -لأ.
    استندت على كفها لتنهض وتستقيم واقفة، ثم هللت في فرحةٍ:
    -ده حتى كوكي هتفرح لما تشوفك تاني بتلاعبها، وقاعد وسطتنا.
    رمشت بعينيها تسأله مرة ثانية:
    -جاهز تخرج من هنا يا خالي؟
    استأنس بالكلام معها، وانتابه إحساسًا عميقًا بالارتياح لنقاء قلبها، وصفاء سريرتها، رغم كل الصعاب القاسية التي مرت بها. حرك رأسه بالإيجاب قائلاً:
    -عشان خاطرك.
    مالت عليه لتحتضنه صائحة في سرورٍ:
    -ربنا يخليك ليا.
    استبقته فيروزة بخطواتٍ شبه قافزة نحو الباب، فراح خليل يدفع كرسيه المدولب للخارج ليتبعها، وقد شعر بعد حديثه الموجز معها، أنه أزاح همًا ثقيلاً كان وما زال يؤرقه كل ليلة؛ من سيعتني بابنته إن فارقت الروح هذا الجسد الفاني؟!
    لاحقًا، بعد مضي النصف ساعة، بصالة المنزل الفسيحة، وفي حجرها المريح جلست محبوبتها الشقية واستكانت، وأخذت تؤرجح ساقيها في الهواء، كأنما تتدلل عليها. رمقت رقية ابنة عمتها بنظرة معاتبة، ورسمت تلك التكشيرة العجيبة على محياها، قبل أن تلومها في تجهمٍ طفولي، يدعو للابتسام:
    -كده ماخدتنيش معاكي؟
    وعدتها فيروزة باسمة في وداعةٍ:
    -المرة الجاية هاخدك، وأفسحك، لحد ما تزهقي.
    -إنتي بتضحكي عليا!
    رفعت يدها أعلى رأس الصغيرة، وبدأت تمسد خصلاتها في رفقٍ وهي تؤكد عليها:
    -لا والله، هي المرادي بس، بعد كده هانروح مع بعض.
    قفزت رقية من حجرها، حين تنبهت لصوت مقدمة برنامجها المفضل، وهتفت في غير مجادلة:
    -ماشي.
    تابعتها فيروزة بنظراتها المهتمة وهي تشعر بالرضا لرؤيتها بخير، جال بخلدها خاطرًا عرضيًا، ماذا لو كانت يد الأذى طالتها؟ بالطبع لم تكن بينهم الآن، استعاذت بالله من هذا الهاجس المخيف، وانتقلت بعينيها نحو والدتها التي صاحت تأمر الصغيرة في حزمٍ:
    -تعالي يالا عشان تاكلي يا كوكي وإنتي بتتفرجي على الكرتون.
    ردت عليها الصغيرة مبتسمة في براءة:
    -أنا عاوزة فيرو تأكلني.
      احتجت آمنة بتعابير وجهٍ جادة وهي ترفع مَطْبقيَّة الشوربة الدافئة نصب عينيها:
    -لأ مش هينفع.
    قطبت رقية جبينها، وتساءلت وهي تتحرك عائدة إلى مكانها بجوار فيروزة:
    -ليه؟
    ببساطة ووضوح أجابتها عمتها:
    -عشان ما تبهدليش هدومها.
    كتفت الصغيرة ساعديها أمام صدرها، وتمسكت برغبتها هاتفة بعنادٍ:
    -لأ ماليش دعوة، أنا عاوزة أكل معاها.
    حاولت آمنة إقناعها بالعكس، ومع هذا لم تنجح، وأخذت رقية تقفز في مكانها بغير تركيزٍ، فأطاحت دون قصدٍ بالمَطْبقية من يدها، فلم تستطع الحفاظ عليها، وانسكبت محتوياتها على ثياب فيروزة، لتتطلخ بالكامل، وتنهض منتفضة من مكانها في صدمةٍ فزعة. تجمدت الصغيرة مذهولة تتأمل ما فعله طيشها الطفولي، في حين هدرت بها عمتها توبخها في غيظٍ:
    -عجبك كده؟ ارتاحتي دلوقتي؟
    تدخلت فيروزة من فورها، وحالت دون أن تطالها يد والدتها لتُأدبها، وقالت مهدئة من ثورة غضبها المتصاعدة:
    -خلاص حصل خير يا ماما.
    هتفت في تذمرٍ:
    -خير إيه بس؟ ده إنتي هدومك باظت!
    ثم التفتت إلى الصغيرة مكملة تقريعها لها:
    -كده ينفع البهدلة دي؟ ما أنا قولتلك من الأول.
    حاولت المرور وتجاوز ابنتها لتصل إلى الصغيرة، فتكور قبضتها وتلكزها بوكزة جانبية موجعة؛ لكن منعتها فيروزة من بلوغها، وهتفت في تعقلٍ محاولة امتصاص غضبها:
    -مش مشكلة، أنا هشوف حاجة من هدومي القديمة في الدولاب وألبسها.
    قالت من بين شفتيها في استياءٍ عارم:
    -هاقول إيه بس..
    ربتت فيروزة على كتف والدتها، ورددت:
    -معلش يا ماما، خير.
    ثم استدارت مخاطبة رقية بلهجةٍ مالت للحزم:
    -روحي على الأوضة، وأنا شوية وجيالي.
    أطاعتها في أدبٍ، وهرولت مغادرة المكان بخطى سريعة، لتبقى فيروزة بمفردها مع والدتها، فتكلمت الأخيرة قائلة بعد زفيرٍ سريع:
    -إنتو تفضلوا معانا بقى للغدا، كلمي جوزك وقوليله.
    اعتذرت منها ابنتها في حرجٍ طفيف:
    -معلش يا ماما، خليها وقت تاني، حماتي عزمانا النهاردة.
    اندهشت آمنة للخبر، وقالت وهي ترفع حاجبها للأعلى:
    -والله؟
    ثم أتبع ذلك هزة خفيفة من كتفيها، لتضيف في استحسانٍ:
    -كتر خيرها، هي ست صاحبة واجب طول عمرها.
    اتفقت معها في الرأي، وبدأت في التحرك بعيدًا عن الفوضى الحادثة في محيطها؛ لكن استوقفها تعقيب والدتها الجاد:
    -والأهم من ده كله بتحبك.
    رفعت ناظريها نحوها، وأكدت بابتسامةٍ ممتنة:
    -ده حقيقي، أنا مشوفتش زيها في طيبة قلبها.
    دعت لها والدتها برجاءٍ:
    -ربنا يحبب فيكي خلقه..
    ردت عليها دون أن تفتر بسمتها:
    -يا رب.
    أوصتها والدتها مشيرة بيدها في لهجةٍ غلب عليها طابع الجدية:.
    -الحقي بس غيري هدومك، وخليني أنقعها قبل ما أحطها تتغسل في الغسالة.
    اعترضت وهي تخفض رأسها لتتطلع إلى ثيابها المتسخة:
    -مالوش لزوم، هابقى أخدها معايا.
    هتفت معاندة في تصميمٍ:
    -لأ، البقعة تلزق ودي فيها سمنة، سبيها، مش هتاخد مني غلبة.
    أمعنت النظر في البقع المتناثرة هنا وهناك على ثيابها، فأيقنت أنها إن لم تتصرف وتتخلص منها فورًا، سيبقى أثرها مطبوعًا ويفسدها بالكامل، هزت رأسها قائلة بانصياعٍ:
    -حاضر.
    ما وجدته مناسبًا للارتداء في دولاب ثيابها، بعد فحصه بدقة، كان بنطالاً قماشيًا من اللون الأسود، ذي أرجلٍ واسعة، وخصرٍ يضيق حول منطقة الأرداف، يعلوه كنزة بيضاء قصيرة ومنزوعة الأكتاف تصل إلى خصرها، فاختارت سترة زهرية اللون لتضعها عليها؛ لكنها كانت أقصر منها في الطول. لم تكن الخيارات متاحة كثيرًا، فالبقية كانوا متهالكين، أو يظهر عليهم القِدم، وغير ملائمين للخروج من المنزل. أعادت فيروزة ضبط حجاب رأسها، وجذبت أطراف الكنزة لتغطي ردفيها البارزين نسبيًا، لم تكن مستريحة في هذه الثياب؛ لكنها اضطرت أن تكون بديلها المؤقت لحين عودتها لبيتها.
    ودعت والدتها، وغادرت المنزل لتسير في الشارع متجهة إلى الدكان أولاً، أرادت رؤية تميم، وأخذ مفتاح البيت منه، بعد أن أدركت تناسيها لمحفظتها في سيارته، حين فتحتها لتنظر إلى هيئتها قبل أن تصعد لرؤية عائلتها، وضعتها آنذاك بالمقعد الخلفي فوق حقيبتها، وجذبت الأخيرة دون أن تتأكد من وضعها بداخلها، حتمًا سقطت أسفل المقعد، أكدت على نفسها هذا بصوتٍ يدور في عقلها:
    -مالهاش تفسير إلا كده، يا رب بس ماتكونش ضاعت!
    كانت تسير متعجلة نسبيًا، تحتاط من نظرات الناس إليها، خشية أن ينظر أحدهم بوقاحة إلى جسدها، وهي لم تكن معتادة على ذلك. ما إن أصبحت قريبة من محيطه، ضاقت عيناها بفضولٍ مستريب، فقد لمحت تميم من ظهره يقف على مقربة من إحدى السيدات المُتلفحات بالسواد، لم تستطع تبين ملامحها من زاويتها البعيدة، توقفت في مكانها تراقبهما عن كثبٍ، وهي تشعر بالغيرة تتزايد بداخلها. تساءلت مع نفسها بغير صوتٍ:.
    -هو إيه اللي بيحصل هناك بالظبط؟!
    التهت عن سبب مجيئها، وراحت تمعن النظر فيما يفعلاه معًا، وهذا الشعور المزعج يأكلها، لصدمتها! رأت المرأة تتعامل بأريحية وألفة كبيرة مع زوجها، وكأنه لا توجد حواجز بينهما، فوجدتها تربت تارة على جانب ذراعه، وتارة أخرى على ظهره، وفي بعض الأحيان تضحك بصوتٍ مرتفع لافت للأنظار، اشتعلت بها نيران الغيرة أكثر، فأكثر، وأحرقها المشاهدة عن بعدٍ، انصرفت مندفعة بعيدًا عن الدكان وهي بالكاد تكبت غليلها، هسهست متوعدة بحقدٍ:.
    -ماشي يا تميم!
    لم تستطع كبح مشاعرها الحانقة كثيرًا، فأمسكت بهاتفها المحمول، وكتبت بعصبيةٍ رسالة نصية قرأتها بلسانها كذلك:
    -يا رب تكون الأعدة حلوة، وطرية.
    ضغطت على زر الإرسال وصوت أنفاسها المنفعلة شبه مسموعٍ لها، تابعت السير المتعجل إلى أن بلغت محلها، ربما أحسنت التصرف بابتعادها وهي في تلك الحالة العصبية؛ لكنها لن تمرر الأمر على خير، فزوجها غير متاحٍ لغيرها!
    من حُسن حظها أنها انشغلت قليلاً بحديث مساعدتيها عن العمل، وما دار خلال الأيام الماضية، من بعض الاتفاقات المُربحة ماديًا لها، بعد تهنئات فرحة بعودتها من أجازتها القصيرة. حافظت فيروزة على ثبات بسمتها العملية وهي تصغي إليهما؛ لكن بقي ذهنها مشحونًا بالأفكار الغاضبة، تركت واحدة تنصرف مبكرًا، والأخرى استأذنت لتأتي بالجديد من المطبوعات. أوصتها قبل أن تغادر بلهجةٍ متشددة:.
    -متتأخريش، تستلمي الأوردر وتيجي على طول.
    ردت الفتاة وهي تعلق حقيبتها على كتفها:
    -حاضر يا أبلة.
    للغرابة! شعرت بالضيق لهذا اللقب المقترن بشخصها، خاصة أنه تزامن مع هذا المشهد المؤذي لمشاعرها كزوجة قبل أن تكون أنثى تغار على نصفها الآخر. غمغمت مع نفسها بإحباطٍ يائس:
    -أبلة! ده أنا شكلي هطلع متأرطسة في الآخر.
    خرجت من شرودها اللحظي على صوت أحدهم قد وطأ أعتاب محلها هاتفًا في تهذيب:
    -لو سمحتي، ممكن مساعدة.
    ألقت عليه نظرة سريعة شاملة، قبل أن تنهض واقفة لترحب به في طريقة عمليةٍ بحتة:
    -اتفضل يا فندم، أنا تحت أمرك.
    تنحنح في خفوتٍ وهو يضبط نظارته الطبية على أنفه، ليقول بعدها بتعابيرٍ جادة:
    -أنا كنت عاوز أجيب بلورات في عيد ميلاد ابن أختي نوزعها على قرايبنا.
    سألته وهي تدور حول مكتبها لتتحرك في اتجاه الأرفف المخصصة لبيع البلورات الكريستالية:
    -أوكي، في تصميم معين حابه؟
    لم تلمح هذه النظرة المدققة لمفاتنها على وجهه، فكامل تركيزها كان منصبًا على مسح الأرفف لانتقاء المميز من معروضاتها، التوى ثغر الرجل ببسمة طفيفة وهو يدنو بتؤدة منها، مستمتعًا بما يراه خلسة منها، تصنع الجدية حين لاحظ استدارتها، واستطرد يخبرها وهو يشير بيده:
    -ممكن أشوف الأشكال اللي عندك.
    تعاملت معه دون تشكيكٍ في نواياه:.
    -في هنا في الرف كام حاجة حلوة، وفي لسه هايجيلي المحل كمان يومين، ده لو حضرتك تحب تستنى.
    ثم مدت يدها لتنتقي البعض منهم، ووضعتهم على الطاولة الزجاجية الفاصلة بينهما، ادعى اهتمامه بشيءٍ معروضٍ بالأعلى، فقال وهو يشير ناحية إحدى البلورات الموضوعة في الرف العلوي:
    -طب ممكن أشوف اللي فوق دي.
    أمعنت النظر في الرف الأخير من موضعها، وسألته لتتأكد من مقصده وهي توجه سبابتها إليها:
    -تقصد دي؟
    أخفض رأسه قائلاً بتضليلٍ:
    -أيوه، معلش هتعبك معايا.
    سحبت المقعد الخشبي ذي الشكل الدائري منزوع المسند والظهر، وقربته من الرفوف وهي ترد:
    -ولا يهمك.
    صعدت بحرصٍ عليه، ورفعت ذراعها للأعلى لتلتقط هذه البلورة، ثم هبطت عن المقعد لتناوله إياها وهي تكلمه:
    -اتفضل.
    أخذ يفحصها بنظرة مهتمة، كأنما يبدو متحيرًا في اختياره، ثم طلب منها بحرجٍ:
    -طب ممكن اللي جمبها، وأنا أسف على الدوشة اللي عملهالك.
    ردت دون تكلفٍ وهي تضع بسمة رسمية على محياها:
    -ده شغلي، لحظة.
    عاودت الكَّرة، وصعدت على المقعد مرة أخرى، لتأتي له بالمطلوب، دون أن تعي حقًا أنها منحته فرصة من ذهب ليدور بعينين تلمعان فيها نظرات شهوانية على استدارة جسدها المشوقة، بالكاد كانت فيروزة تهبط عن المقعد من وضعها اللافت للأنظار حين ولج زوجها للمحل. نظرت إليه نظرة متفاجئة ومصدومة لرؤيته، خاصة لأنها تقابلت مع نظراته المظلمة مما جعلها تتوتر بشكلٍ غريب، كأنما أمسكت بالجرم المشهود. استطرد تميم مُلقيًا التحية بصوتٍ أجش وخشن:.
    -سلام عليكم.
    في البداية لم يلقِ الرجل له بالاً، ومنحه نظرة عابرة، سرعان ما تبدلت لشيءٍ من التلبك عندما وجده يحدجه بنظرات لا تنتوي خيرًا، تضاعف هذا الخوف بداخله، وقد أبصره يقبل ناحيته بتعابيرٍ متوعدة، كأنما يريد التشابك معه، أخرج من جيبه منديلاً ورقيًا جفف به عرقه البارد وهو يردد:
    -وعليكم السلام.
    على عكس توقعه، تقدم تميم ناحية زوجته متسائلاً في صوتٍ جاف:
    -في حاجة محتاجاها يا أبلة وأنا أجيبها؟
    عاملته بنفس الجفاء، وأخبرته:
    -هو حابب يشوف البلورات اللي فوق، وأنا بجيبهاله.
    كتمت شهقتها عندما وجدته يجذبها من ذراعها لتقف خلفه في قسوةٍ غريبة، وصاح مخاطبًا الرجل بعينين تطقان شررًا:
    -خليكي إنتي، وأنا هتعامل...
    سلط تميم كل بصره المحتقن عليه، وسأله في تحفزٍ يُنذر بالشر:
    -عاوز إيه بقى؟
    لم يبدُ الرجل مستريحًا لوجوده، وهتف متهربًا:
    -طب، آ، نخليها لما يجيلك الجديد، جايز يكون في حاجات أحلى.
    طرق تميم براحة يده على سطح الطاولة الزجاجية في عنفٍ لتهتز البلورات الموضوعة عليه، وخاطبه في حدةٍ محسوسة في صوته:
    -مافيش غير الموجود هنا، ده لو عاجب يعني.
    فرت الدماء من وجهه، وبدا شاحبًا إلى حدٍ كبير عندما همهم في تلعثمٍ
    -أها، طيب، آ، هاخد لفة، و، أرجع.
    هدر به تميم في نبرة اخشوشنت أكثر:
    -بالسلامة.
    لم تحاول فيروزة ردِّه أو حتى معاتبته اعتراضًا منها على أسلوبه الفظ مع زبائنها، وانتظرت ذهاب الرجل لتسأله بضيقٍ وهي تبتعد عنه لتجلس عند مكتبها:
    -في إيه يا تميم؟
    تحرك خلفها قائلاً باستهجانٍ متهكمٍ، وهو يكبت بصعوبة نوبة غضب وشيكة:
    -لا مافيش، افتحي الكاميرا.
    نظرت إليه متسائلة باسترابة:
    -ليه؟
    رد عليها بسؤالٍ آخر:
    -ولا إنتي مش مشغلاها يا أبلة؟!
    أكدت عليه بدهشة أكبر فاقت ضيقها منه:
    -طبعًا شغالة.
    أمرها بلهجةٍ لا ترد:
    -رجعي الفيديوهات بتاعة آخر خمس دقايق..
    رمقته بتلك النظرة المدهوشة، فتابع بنفس الصيغة الآمرة:
    -لما البيه المحترم كان واقف هنا
    للحظة ظنت أنه يفتعل تلك المشاجرة غير المبررة ليقلب الطاولة على رأسها، ويغطي على ما لا يريد تفسيره لها، انتفضت واقفة من على مقعد مكتبها تسأله في احتجاجٍ:
    -إنت قصدك إيه بكده؟
    أجلسها عنوةً بدفعة قوية من يده على كتفها وهو يجاوبها بغموضٍ ضاعف من هواجس عقلها:.
    -هتعرفي لما تشوفي بنفسك.
    أرغمت نفسها على التعامل بحكمةٍ وروية مع بوادر الأزمة الوشيكة، وراحت تفحص ما سجلته كاميرات المراقبة الموجودة بمحلها من عدة زوايا، اتسعت عيناها في ذهول مذعور حين رأت ما حدث، واختفى لون بشرتها الطبيعي تأثرًا بما أدركته، ألقت نظرة سريعة مرتاعة على وجه زوجها الغائم، وهتفت مدافعة عن نفسها:
    -مش معقول، ده كان واقف محترم.
    أحست بقبضة تميم تعتصر كتفها وهو يعلق على ما رأه معها:.
    -أه بأمارة ما مخليكي طالعة نازلة عشان يتفرج على لبسك الضيق.
    انكمشت على نفسها في حرجٍ، وهي تكاد لا تستوعب مدى الحُمق والغباء اللذين وقعت فيهما لتتعامل بسذاجة مع أمثاله من معدومي الضمير. تأوهت فيروزة في ألمٍ وقد اشتدت قبضته على كتفها، وأجبرت نفسها على الالتفاف والنظر إلى تميم حين تابع من بين أسنانه بصوتٍ لم يكن مرتفعًا؛ لكنه أدانها:
    -اللي بالأمارة مكانش لبسك النهاردة.
    عللت السبب وراء ذلك، فقالت بتوترٍ:
    -ما هو كوكي دلقت الشوربة عليا، وبهدلتني، فاضطريت ألبس حاجة من حاجتي القديمة، ومعرفش إنها ضاقت أوي عليا كده.
    سألتها بنظرة جعلت قشعريرة باردة تنتفض في كامل جسدها:
    -ومشيتي بيه في الشارع؟ والناس اتفرجت عليكي؟
    أنكرت على الفور برجفة محسوسة في رنة صوتها:
    -لأ، أكيد دي مش نيتي...
    حدجها بنفس النظرات الباعثة على الرهبة، فاستأنفت تبريرها رغم ما يعتريها من قلقٍ غريب، خاصة مع ثباته الانفعالي غير المعتاد عليه:
    -حتى أنا جيت الدكان عندك عشان أخد منك مفتاح البيت، لأن محفظتي نسيتها في العربية، ولاقيتك واقف مع واحدة عمال تضحك وعايش حياتك ولا همك!
    كلماتها الأخيرة استفزته، فحذرها بخشونةٍ بعد أن حرر كتفها من أسفل قبضته:
    -ماتغيريش الموضوع!
    وضعت فيروزة يدها على موضع الألم تدلكه في رفقٍ، وراحت تعارضه بتشنجٍ:
    -لأ معلش، أنا من حقي أعرف مين دي اللي كانت معاك؟
    أخبرها بزفيرٍ ثقيل، وهذه النظرة القاسية تكتسح وجهه:
    -وأنا جيتلك مخصوص عشان كده، مهانش عليا أسيبك لراسك، وتظني فيا الظنون، بس كان من حظي أشوف بيحصل إيه هنا.
    لعقت شفتيها، واستطردت هاتفة في حمئة:
    -أنا كنت قادرة أتعامل على فكرة.
    منحها نظرة هازئة مستنكرة قبل أن يتراجع مبتعدًا عن مكتبها وهو يقول:
    -أه ما هو واضح.
    استغلت ابتعاده عن محيطها لتهبَّ واقفة، ثم تقدمت في اتجاهه خطوة حذرة، لتسأله بعدها في غيرة غير مشكوك فيها:
    -برضوه مقولتليش مين الست دي؟
    لم ينظر ناحيتها وهو يجيبها:
    -دي واحدة من معارف أبويا، في مقام أمي، وأكبر منها في السن.
    هتفت تسأله في غيظٍ:
    -وعشان كده واخدة عليك أوي؟
    باستعلاءٍ متجافٍ تطلع إليها تميم، ليعقب في قسوةٍ صريحة:.
    -ما هو عشان أنا في الأساس مراعي غيبتك، بعدت من غير ما أحرجها، وقت ما لاقيتها بتتعامل بنفس الطريقة اللي مش حاببها...
    رغم ما به من غضب مستعر ينهش في صدره، لعدم فتكه بهذا الدنيء النجس، إلا أنه كبته مضطرًا، محاولاً بجهدٍ جهيد ألا يحرر ثورته الهائجة، بدت أنفاسه محمومة وهو يكمل كلامه:
    -بالظبط زي ما عملت دلوقتي، مع إن سهل أضرب كرسي في الكلوب، وأقلع عين اللي يبصلك، وإنتي عارفة ده كويس.
    استخدم سبابته في الإشارة مع ختام جملته، فحركت فيروزة شفتيها مكررة دفاعها عن نفسها:
    -وأنا معرفش إنه بني آدم بالقذارة دي.
    رمقها بنظرة جافة من عينيه، خالية من الدفء، ومغايرة لما اعتادت عليه منهما، ازدردت ريقها، ورققت من نبرتها تناديه في حذرٍ:
    - تميم، أنا...
    قبل أن تعطيه عبارة مفيدة قاطعها في صوتٍ آمر مليء بالصرامة:
    -اقعدي في مكتب وماتقوميش منه لأي سبب، وأنا هاجيب العربية ونمشي.
    بترددٍ محسوس في صوتها حاولت الاعتراض على أمره:
    -بس البنت اللي شغالة معايا آ...
    قاطعها وهو يسرع الخطى نحو الخارج:
    -كلميها تحل محلك، سلام.
    تجمدت في مكانها تتابع ما كان أثره قبل لحظةٍ في استياءٍ واضح، تجلت التعاسة على قسمات وجهها وهي تردد مع نفسها:
    -هو احنا بنلحق؟!
    هام مرة ثانية في شروده الصامت المحفوف بالكثير من الرغبات العنيفة في إيذاء ما يبيح لنفسه ما ليس له، كان منفذه الوحيد للتنفيس عن المكبوت من مشاعره المستثارة الحديث مع جده الغالي. زاره في غرفته، وجلس مقابله على طرف السرير، ثم بدأ في التكلم بشيءٍ من الاحتراز:
    -عامل إيه يا جدي؟
    شمله سلطان بنظرة خبيرة جابت على تقاسيم وجهه بتفرسٍ، ليشرع متسائلاً بعدها في مرحٍ:.
    -إيه يا واد؟ مصدقت، غرقت في العسل ونسيت جدك؟
    حرر دفعة من الزفير الحانق من صدره، ونفى ذلك بغير ابتسامٍ:
    -أبدًا والله، ده إنت على راسي.
    ارتكزت عينا الجد عليه، وسأله في هدوءٍ:
    -إيه أخبارك؟ كله تمام معاك؟
    مجددًا طرد الهواء من رئتيه قبل أن يجاوبه في فتورٍ:
    -الحمدلله في نعمة.
    مهد لاسترساله معه بقوله العادي:
    -بس وشك بيقول غير كده.
    تهرب من منعه التفسير بتعليله غير المقنع:
    -يعني، متخدش في بالك يا جدي.
    أراح سلطان ظهره للخلف، وارتكن بقبضته على رأس عكازه، ثم أخذ يلفه يمينًا ويسارًا بحركة رتيبة متكررة، قبل أن يستطرد:
    -طيب أنا عاوز أقولك كلمتين بما إني عارف طبعك الحامي، اللي مع أول مناغشة هيطلع وينط.
    وكأنه قادرٌ على قراءة ما يجول في عقله من مناوشات حامية الوطيس، كما لو كانت الحرب على وشك الاندلاع، نظر إليه بإمعانٍ وهو يبدي ترحيبه بنصائحه الثمينة:
    -قول يا جدي.
    استفاض الجد في توضيحه العقلاني:.
    -الست من دول تحب راجلها يكون حِمش، شديد على غيرها، بس في نفس الوقت حنين معاها، صارم، بس محافظ على كرامتها وقيمتها، يعني يضرب ويلاقي، لو كان قاسي مع غيرها، تلاقيه مضلل عليها، واخدها تحت جناحه، مايخليهاش تشوف منه الوش الوحش دايمًا، لأ في وش الحنية والدلع، والطبطبة...
    تطلع إليه مبهورًا، كأنما عرف كيف يطفئ لهيب النار المتأججة فيه، أصغى إليه بانتباهٍ تام وهو يواصل مخاطبته:.
    -عشان لو عمل العكس ساعتها الحب اللي موجود في الأول هيروح، ومع الوقت مش هايبقى غير الشوك والضيق، والخنقة.
    تخلل صدره الملتاع بغضبه قدرًا لا بأس به من الارتياح، فهتف في امتنانٍ، وقد نهض من مكانه ليقترب منه:
    -والله يا جدي كلامك جاي في وقته.
    أحنى رأسه على كف جده يقبله في توقيرٍ، فمسح سلطان على رأس حفيده داعيًا له بما يحتل القلب من محبة صادقة:
    -ربنا يهدي سرك ويصلح حالك.
    أغلب الوقت كان نائيًا عنها، متجافيًا معها، لا يكلمها إلا قليلاً، وبمختصر الكلام، كأن في ذلك نوعٍ من العقاب لها، حتى حينما استقبلتها والدته بحفاوة حارة، بدا على جفائه الداعي للريبة وإثارة الشكوك، لهذا اضطرت فيروزة للتعامل بحنكةٍ وإخفاء ما بينهما من توتر وخلاف، على أمل أن تمر هذه المشكلة الجديدة على خير، بحثت عيناها عنه عندما وجدته اختفى بالداخل لفترة استطالت مدتها، ولم تمتلك هذا القدر من الجراءة لتنهض من موضع جلوسها للبحث عنه، تساءلت في باطن عقلها بتحيرٍ شديد:.
    -يا ترى بتعمل إيه يا تميم؟ وهنحل الحكاية دي إزاي؟!
    نفخت في سأمٍ، وبدأت أفكارها في التخبط، انتشلتها من هذا التصارع المستنزف لصبرها صوت ونيسة القائل بوديةٍ:
    -قومي يا بنتي غيري هدومك، هتلاقي في أوضة هاجر كام قميص بيت نضيف.
    اعتذرت بلباقةٍ:
    -مالوش لزوم.
    سألتها ونيسة في نبرة يشوبها العتاب:
    -إنتي مكسوفة ولا إيه؟ ده بيتك، إنتي مش ضيفة...
    ضمت شفتيها معًا، فأصرت عليها بودٍ أكبر:
    -يالا يا حبيبتي، خدي راحتك.
    ربما كان في نهوضها فرصة مناسبة لرؤية زوجها الغائب عمدًا عنها، وتفقد أمره، أظهرت ابتسامة لطيفة على فمها وهي تخبرها مرة أخرى:
    -شكرًا يا طنط.
    بخجلٍ شبه ظاهر آثاره على وجهها، بدأت فيروزة في السير نحو الردهة المستطيلة، وعيناها تسبقاها في التفتيش عن زوجها، بمجرد أن دنت من باب غرفته، وجدته واقفًا عند أعتابها، خفق قلبها بقوةٍ، وهمَّت بالتكلم؛ لكن خرجت الحروف على شكل تأويهة مباغتة عندما قبض على رسغها، وجذبها في لمحة خاطفة إلى الداخل، موصدًا الباب خلفهما، انتشرت رعدات متفاوتة في قوتها في كامل بدنها، استجمعت رغم ذلك جأشها، لتظهر ثابتة أمام نظراته غير المُريحة، وسألته في نبرة لائمة:.
    -إيه ده؟ إنت بتعمل إيه؟
    لا تعرف لماذا أُجبرت قدماها على التراجع بشكلٍ تلقائي للخلف، كما لو كانت تحاول إيجاد مسافة آمنة بينهما، كأنما تخشى من طريقة تطلعه إليها، هوى قلبها بين قدميها، وشعرت برجفة أقوى تنتابها عندما بدأ يتحرك ناحيتها قائلاً بغموضٍ ضاعف من هذا التلبك المستحوذ عليها:
    -ليا لي كلام معاكي.
    سألته بصوتٍ متحشرج، وهي ترمش بعينيها في قلقِ:
    -كلام إيه؟
    رأته يشمر عن ساعديه، ويثني أطراف أكمام قميصه في تمهلٍ مهلك لأعصابها المستنزفة مسبقًا، زادت قوة الخفقان بها، وأحست بتحفزٍ عجيب يجتاح كل ذرة في جسدها، حذرته بصوتٍ مذبذب وهي ترفع سبابتها أمام وجهه، دون أن تتوقف عن الارتداد للخلف:
    -بص، مامتك برا، وجدك كمان.
    التوى ثغره بشبح بسمة غريبة، وقال في غير مبالاة على الإطلاق:
    -وإيه يعني؟
    تفشت حمى التوتر في كامل أوصالها، مع حركته البطيئة نحوها، وراحت الخيالات العجيبة الخجولة تجتاح ذاكرتها، واقترنت بسابقتها المحرجة لها، تلك التي ذاقت فيها تقريعًا جعلها تتهذب معه بشكلٍ فتنه بها، تضاعف ارتباكها، وهتفت في صوتٍ مرتجف، غير رادعٍ له، بل تكاد تُجزم أنه زاده بأسًا على بأس:
    -هيقولوا عنك إيه؟ مايصحش اللي بتعمله ده.
    تقوست شفتاه أكثر، وقال في نبرة ذات مغزى:
    -مين قالك؟
    التصق ظهرها بالدولاب، وأصبحت شبه محاصرة، تفكر بغير هدى عن وسيلة للنجاة من عقابه الوشيك، ورغم تخبطها إلا أنها سمعته يقول باستمتاعٍ:
    -بالعكس هيعتبروا الموضوع عادي جدًا، راجل واخد راحته مع مراته حبتين.
    زَحِفت وتزحَّفت بظهرها على الدولاب لتفر من نظراته المتوعدة لها، مستشعرة زيادة الوخزات الحسية في جسدها دون مساس، توسلته بصوتٍ مهتز:
    - تميم، أنا...
    شهقت في تلبكٍ كبير وقد أمسك بها من رسغها يسألها بصوتٍ خفيض؛ لكنه باعث على كل مشاعر الرهبة:
    -البنطلون مش ضيق صح؟
    هددته في يأسٍ، وقد تقلصت عضلاتها:
    -أنا مش هاسكت، لو قربت مني، ه آ...
    قاطعها مكملاً الجملة عنها:
    -هتصوتي؟
    هزت رأسها دون أن تنطق، فضحك في خفوت، ليخبرها بعدها بهسيسٍ:
    -براحتك، وقوليلهم جوزي كان بيأدبني لأني غلطانة.
    احتد شعورها بقوة الوخزات المنتفضة في بدنها، واستعطفته رغم يقينها بأنه لن يصغي لتوسلها الهزيل:
    -ماشي إنت معاك حق تتضايق، بس بلاش هنا.
    لاح على ثغره بسمة ماكرة، والتمعت في عينيه تلك النظرة الشقية، ليتبع ذلك همسه الخطير:
    -ده مافيش أحلى من إنه يكون هنا.
    بنداءٍ لن يشكل فارقًا معه استجدته:
    - تميم!
    شهقة أخرى مذهولة انفلتت منها وهي لا تعرف كيف امتلك من القوة البدنية ما جعله يشدها بعيدًا عن دولاب الثياب، أم أن مقاومتها خارت مع تأثير تهديد كلماته الممهدة لتأديبه الخاص، في طرفة عينٍ وجدت فيروزة نفسها موضوعة على ركبتيه، منكفأة على وجهها، ويداها تستندان على الأرضية، قبل أن تفكر في التخلص من هذا الوضع المخزي، التفت ساقه حول ساقيها، وضمتهمًا معًا، ليحكم قبضته عليها، صارت تحت سطوته كليًا، غير قادرة على الفكاك أو المناص منه، توسلته بصوتٍ مرتعش:.
    -أنا أسفة، مش هتحصل تاني.
    تحفزت يده لمنحها ما ظن أنها تستحقه، فأخذ يربت على ردفيها بهوادة ألهبت بشرة وجهها حرجًا وخجلاً دون أن تبدأ جولته المحمومة فعليًا، استفزته حين نطقت بغير تفكيرٍ:
    -ما أنا محاسبتكش على وقفتك إياها، وعدتها.
    كتمت شهقة بدت أقرب للصراخ حين انطلقت أول صفعة قاسية أصابت هدفها، أعطاها أخرى مماثلة في القوة وهو يكلمها بغير تساهلٍ:
    -دي ليها كلام تاني، بس خلينا نخلص كل حساب لوحده.
    لتتوالى بعدها الصفعات التأديبية الجادة، في تواترٍ متزايد ومحفز للغاية، جعل الأمر يصل بينهما في نهاية المطاف، إلى رحلة اجتذاب وتقارب شديد الحميمية، دفعهما نحو عالمٍ أصبحا يتناغمان فيه بشكلٍ مُذيب للخلاف، ومُنعش للوجدان...!
  9. omamer
    رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الرابع والستون
    استعانت بثقل وزنها، وحملته كاملاً على ركبتها، كمحاولة جادة منها لغلق الحقيبة، بعد أن ملأتها عن آخرها بثيابهما معًا، بالكاد تمكنت من غلق السحاب لمنتصف المسافة، فاستقامت واقفة، واستدارت ناظرة إلى زوجها الواقف بجوار النافذة يراقبها في استمتاعٍ، على أمل أن تنجح في النهاية في مهمتها. منحته فيروزة نظرة مزعوجة تعكس ضيقها من عدم إنجاز الأمر الذي ظنت أنه يسيرًا، بينما بادلها تميم بسمة شبه مغترة وهو يكتف ساعديه أمام صدره. تجهمت بعبوسٍ واضح، وخاطبته:.
    -مش حكاية يعني!
    هز كتفيه معلقًا بنفس الابتسامة الهادئة:
    -إنتي اللي صممتي، أنا مقولتش حاجة.
    نفخت في صبرٍ نافذ، وطلبت منه بانفعالٍ طفيف:
    -اتفضل اقفلها.
    أرخى ساعديه، وتحرك ناحيتها قائلاً بغرورٍ محسوسٍ في صوته:
    -بس كده، عينيا.
      تراجعت خطوتين للخلف، لتفسح له المجال، ثم نظرت إليه ملء عينيها وهو ينجز ببساطة شديدة مهمتها؛ كأن الأمر لا يتطلب كل ذلك الجهد منها. أشاحت بوجهها للجانب تغمغم في صوتٍ خفيض غير مفهومٍ، فالتف ناحيتها متسائلاً بعنجهيةٍ أصابتها بالغيظ:
    -في حاجة تانية؟ ولا كده تمام.
    شبكت ذراعيها معًا، وردت نافية:
    -لأ.
    وضع تميم قبضتيه على خصرها، يداعب جانبيها برفقٍ قبل أن يخبرها في صوتٍ هادئ، ونظراتٍ مشوبة بالحب:.
    -فكي يا حبيبتي التكشيرة دي.
    ردت في عبوسٍ:
    -كان نفسي نطول في الأعدة يومين زيادة، احنا ملحقناش.
    جذبها إليه في تؤدةٍ، فاضطرت أن تحل تشابك ذراعيها، وتستند بمرفقيها على صدره، لتغدو أكثر قربًا منه، مستشعرة الحرارة المنبعثة من جسده، ركز بصره عليها، وقال باسمًا في ودٍ:
    -وأنا والله، بس حِمل الشغل كله على أبويا، وإن شاءالله نعوضها وقت تاني.
    أتبع ذلك تجسيدًا حسيًا لمشاعره ناحيتها، أغمضت عينيها لتسرح في أفقها الوردي مع ما اعتادته منه من قبلات شعورية فاقت حد الخيال، تبث في خلايا جسدها أحاسيسًا تواقة لم تعرفها إلا معه! بالكاد ترك لها فرصة لتلتقط أنفاسها التي قطعت، قبل أن يهمس لها في نبرةٍ متيمة:
    -نفسي الوقت معاكي مايخلصش.
    ردت بصوتٍ خفيض، وهي تشب على قدميها لترتفع قليلاً، فتضاهيه في طوله:
    -الحياة لسه قدامنا.
    لثم شفتيها بقبلة أعمق، قادرة على تحريك الراكد من المياه، ليتراجع مرددًا في لهاثٍ:
    -ربنا يقدرني وأسعدك.
    انخرطا في لحظةٍ خاصة بهما، طالت، واستطالت، ونقلتهما إلى عنان السماء، فاهتاج الوجدان، وتحرَّق الجسد للارتواء، قطع ذلك الانسجام العميق رنين الهاتف، فانسلت فيروزة من أحضان زوجها وهي تتحسس صدرها الناهج؛ لكنه لم يتركها تبتعد، ظلت قبضته ممسكة بجانب خصرها، تطلعت إليه وهو يعتذر منها:.
    -معلش يا حبيبتي، ثواني كده..
    أخرج الهاتف من جيب بنطاله الخلفي، ونظر إلى شاشته هاتفًا:
    -ده أمي بتتصل.
    هزت رأسها تخبره في ترحابٍ:
    -رد عليها.
    ابتسم لها، وأجاب على المكالمة قائلاً:
    -أيوه يا ست الكل...
    بصنعةِ لطافةٍ تحررت من قيده غير المحكم حول خصرها، لتترك له مساحة من الخصوصية معها، واتجهت إلى مرآة التسريحة حتى تعيد ضبطت هيئتها، أصغت إليه وهو يخابر والدته مبتسمًا، وعيناه تنظران إليها:.
    -الحمدلله تمام، الله يسلمك يا رب.
    اعتلى ثغره ابتسامة أكثر إشراقًا عندما واصل الكلام معها:
    -ليه بس تتعبي نفسك؟
    مرر يده على رأسه، وتابع في صوتٍ اتخذ طابعًا جديًا:
    -طيب حاضر هاقولها الأول، وهرد عليكي بعدها.
    بدأ في التحرك ناحيتها وهو يختتم اتصاله معها:
    -ماشي يامه، في رعاية الله.
    عندئذ تساءلت فيروزة باهتمامٍ بعد أن أعاد وضع الهاتف في جيبه:
    -خير في حاجة؟
    تنحنح بصوتٍ خفيض قبل أن يجاوبها:.
    -هي أمي عاملة حسابنا في الغدا معاهم النهاردة، لما عرفت إننا راجعين.
    ردت بعد لحظة من الصمت المتردد:
    -مكانش ليها لازمة تتعب نفسها، احنا هنتصرف يعني.
    برر لها حُسن نواياها قائلاً:
    -هي حبت تريحنا، وأنا مرضتش أديها كلمة إلا لما أتشاور معاكي.
    تقوست شفتا فيروزة عن بسمة منمقة وهي تخبره:
    -مافيش مشكلة يا حبيبي.
    استحسن قبولها، ومنحها نظرة ممتنة قبل أن يقول:
    -ربنا يخليكي ليا.
    استدارت محدقة في انعكاسها في المرآة مرة ثانية، وراحت تضبط حجاب رأسها، قبل أن تستأذنه:
    -ممكن أعدي على ماما شوية، هي وحشاني وعاوزة أطمن عليها.
    حاوطها من الخلف، وأراح ذقنه على كتفها، ثم أبدى موافقته قائلاً:
    -أه وماله، خليكي معاها.
    صححت له قائلة بجديةٍ قبل أن يعتقد في بقائها غالبية اليوم:
    -لأ، أنا هقعد شوية، وأروح المحل بتاعي أبص على البنات.
    منحها قبلة جانبية على وجنتها وهو يرد موجزًا:
    -ماشي.
    ابتعد بتروٍ عنها، وبدأ في جمع ما تبقى من متعلقاتهما الشخصية، لتتبعه فيروزة في تعجلٍ، واضعة بعض الأشياء الصغيرة المتناثرة هنا وهناك في حقيبة أخرى صغيرة، لينتهي كلاهما من إعداد كل شيء. تساءل تميم مهتمًا:
    -في حاجة ناسينها جوا؟
    هزت زوجته رأسها بالنفي، وقالت:
    -لأ، أنا بصيت.
    انحنى ليحمل الحقائب بكلتا يديه، واستطرد في همةٍ:
    -تمام، نتوكل على الله، ونرجع لبيتنا.
    حافظت على رقة بسمتها وهي تستعد للتحرك في إثره:.
    -بإذن الله.
      بمجرد أن عادا من رحلتهما القصيرة، أوصلها إلى بيت أهلها، ومكث لبعض الوقت تقديرًا واحترامًا لوالدتها التي استقبلته بحفاوةٍ كبيرة، قبل أن يستأذن مغادرًا المنزل، تاركًا إياها تمكث به ما تشاء من وقتٍ. سوت فيروزة خصلات شعرها المتحررة، وجمعتها في عقدةٍ فوق رأسها، لتشرع بعدها مخاطبة والدتها ومعبرة لها عن شوقها إليها:
    -وحشتيني أوي يا ماما الكام يوم دول.
    قوست آمنة ثغرها لتظهر ابتسامة صافية عليه وهي ترد:.
    -وإنتي أوي، المهم عندي تكوني مبسوطة مع جوزك.
    لمعت عينا فيروزة بوميضٍ مبهج قبل أن تخبرها:
    -والله يا ماما، أنا عمري ما كنت أتخيل إنه يطلع منه الحاجات الحلوة دي كلها، وخصوصًا إن معرفتي بيه في الأول مكانتش أد كده.
    ربتت أمها على كتفها مرددة:
    -ربنا عوض صبرك خير.
    احتفظ وجهها بتعابيره الراضية وهي تقول بصدقٍ:
    -فعلاً، ربنا كرمني آخر كرم.
    تساءلت آمنة بغريزة أمومية معتادة:
    -مبسوطة معاه؟
    لم تخبت السعادة من على ملامحها وهي تؤكد عليها:
    -الحمدلله.
    أخذتها والدتها في أحضانها، ودعت لها وهي تمسح على ظهرها صعودًا وهبوطًا:
    -ربنا يديم عليكي نعمه.
    أمنت عليها في رجاءٍ:
    -يا رب أمين.
    ابتعدت فيروزة عن حضن والدتها، وتساءلت في ابتسامٍ واهتمام:
    -إنتو إيه أخباركم؟ طمنوني عليكم؟ همسة، وابنها، و كوكي، وخالي؟ كلكم كويسين؟
    قالت مع هزة من رأسها وجوبًا، قبل أن ينعكس القليل من الحزن على محياها:.
    -كلنا بخير الحمدلله، بس خالك بعافية شوية!
    شعرت بالقلق من كلماتها الأخيرة، ولاحقتها بأسئلتها في جزعٍ:
    -ليه؟ ماله؟ هو تعبان ولا حاجة؟
    أمسك التردد بلسان آمنة وهي تجيبها:
    -أصل حصلت حاجة كده، مرضناش نقولك عليها.
    تفرست فيروزة في وجه والدتها محاولة كشف غموض ما لا تريد البوح عنه، فكسا التوتر كامل تعبيراتها، كما خفق قلبها في اضطرابٍ مقلق، استجمعت جأشها، وتساءلت بصوتٍ حاولت جعله ثابتًا قدر المستطاع:.
    -حاجة إيه؟ قولي يا ماما، قلقتيني.
    لم تجد بُدًا من إخبارها، فهتفت مسترسلة في الحديث دون استباقٍ مُمهد:
    - حمدية نفذوا فيها حكم الإعدام، ومن ساعتها وهو حاله اتبدل.
    أصابتها صدمة لحظية، أربكت حواسها لوهلةٍ، غير متوقعة أن تنفذ فيها كلمة القضاء الأخيرة خلال أيام زيجتها الأولى. أتى تعقيبها متناقضًا مع مشاعرها غير المتسامحة معها:
    -هي خدت جزائها، معدتش يفيد الكلام.
    علقت عليها آمنة في أسفٍ:.
    -الله يسامحها، ضيعت عمرها وبيتها في ساعة طيش.
    لم تحبذ فيروزة الخوض في سيرتها، فعزفت عن الكلام عنها، وقالت وهي تشير بعينيها نحو الردهة المستطيلة:
    -أنا هاقوم أطمن عليه.
    لاقى اقتراحها استحسانًا من أمها، وراحت تؤيده:
    -أه يا ريت، جايز يفرح لما يلاقيكي قصاده.
    تصنعت الابتسام، وهمهمت في هدوءٍ حذر:
    -إن شاءالله.
    عيناه الوقحتان كانتا تجريان على منحيات جسدها، وهي تميل هنا وهناك لتؤدي عملها الذي جاءت من أجله، ادعى انشغاله بالبحث عن أمرٍ ما في هاتفه؛ لكنها كانت فرصته الثمينة لفحص مقوماتها دون أدنى انتباهٍ منها، أمسكت به والدته وهو يسترق النظرات نحو الخادمة التي صمم على تواجدها بشكلٍ شبه يومي. تقدمت ناحيته، وقطعت عنه الرؤية بالوقوف مباشرة في مرمى بصره، تنحنح فضل مدعيًا إجلاء أحباله الصوتية، وهتف مادحًا:.
    -شوفتي يامه، البت لهلوبة وأنجزت كل حاجة في السريع إزاي؟
    زمت شفتيها معلقة في غير اقتناعٍ:
    -قولتلي.
    نهض واقفًا، ووضع ابتسامة لزجة على محياه قبل أن يضيف:
    -عشان تعرفي إني غرضي أريحك، بدل وجع القلب اللي إنتي فيه.
    سخرت منه هازئة وهي تزيحه عن طريقها لتتحرك في اتجاه المصطبة الخشبية:
    -ياما جاب الغراب لأمه.
    ضجر من جفائها المتعمد، وصاح في كدرٍ:
    -يامه إنتي مش عاجبك أي حاجة؟ أعمل إيه بس عشان أرضيكي؟
    استراحت في مكانها، ونظرت في عينيه قائلة بثباتٍ لا يخلو من جدية:
    -ترجع الحق لأصحابه، ساعتها بس آ...
    قاطعها قبل أن تتم جملته هادرًا بغضبٍ أهوج:
    -قفلي على السيرة دي.
    علقت عليه في تشددٍ:
    -فكرك أنا لو سكت إخواتك هيسكتوا؟ ولا حتى إجوازتهم؟ ده ميراث أبوهم الشرعي وآ...
    مرة ثانية قاطعها هاتفًا بنفس الصوت الهادر:
    -كل واحدة خدت حقها زمان، وبعدين ما الأرض اتحرقت، وبقينا مديونين لطوب الأرض، عايزين إيه تاني؟!
    ناطحته الند بالند، واستطردت مدافعة عن الحق باستماتةٍ؛ كأنما لم تعد تكترث لغضبه الأرعن:
    -عُمر ربنا ما هيرضى عنك طول ما إنت ظالم، ومفتري، وواكل ورث غيرك.
    صر على أسنانه صائحًا في غلٍ:
    -بقولك إيه يامه، سيبك من الهري ده كله، محدش هياخد مليم...
    ثم ضرب كفه بالآخر في عصبية وهو يكمل:
    -المولد اتفض خلاص.
    نظرت له بغيرِ أسفٍ، وهي تكاد لا تصدق ما جنته يداها من تدليل زائد، وتحيز كامل ناحيته، كما لو كانت قد أنجبت ذكرًا أحاديًا في كينونته؛ لكنها نالت في النهاية ابنًا طالحًا يُفسد في الأرض أكثر من إصلاحه فيها! انتبهت سعاد له بعد أن شردت لهنيهة حين قال ببسمةٍ غير مستساغة عليها:
    -قوليلي مانفسكيش البيت الفاضي ده يتملى علينا زي زمان؟
    مصمصت شفتيها معقبة عليه باستهجانٍ، وهذه النظرة المغتاظة تنطلق من حدقتيها:.
    -حِس ولادك بالدنيا، خدهم تحت جناحكم، وراعي ربنا فيهم، هما دول الأبقى ليك.
    وكأنها لم تنبس بشيء، تجاهل كل كلامها معلقًا في ازدراء بائن في طريقة تحدثه إليها:
    -بعدين...
    دنا منها، واحتل الجانب الفارغ من المصطبة، ليلوي ساقه أسفل جسده، ثم خاطبها وهو يرسم تلك الابتسامة البلهاء على وجهه ذي الملامح المكفهرة:
    -المهم أنا عاوزك في حاجة كده.
    حدجته سعاد بنظرة دونية قبل أن تدمدم في حدةٍ:.
    -أنا قولت، اللي إنت بتعمله ده كله وراه حاجة، عمره ما كان لله في لله.
    هتف في صبرٍ نافذ:
    -يامه خليني أخلص وأقول الكلمتين.
    نفخت عاليًا، لتردد بعدها بسأمٍ:
    -سمعني، إياكش تحل عن دماغي.
    انتصب فضل بكتفيه، معتقدًا بهذا أنه صار أكثر مهابة وتباهيًا، ثم استطرد مخاطبًا إياها فيما يشبه الاستهلال لأمرٍ هام:
    -دلوقتي أنا شاب عزابي، لا ليا واحدة تونسني، ولا واحدة تاخد بحسي.
    ضاقت نظراتها بشكٍ، وسألته في تجهمٍ أكبر:.
    -والمطلوب مني إيه؟
    زادت بسمته السمجة اتساعًا، فأدركت المغزى الموحي من وراء هذه النعرة الكاذبة، خاصة أن نظراته الخبيثة أكدت حدسها، فهتفت رافضة دون تفكيرٍ:
    -إنسى إني أتحشرلك في أي جوازة...
    همَّ بالاحتجاج عليها؛ لكنها أخرسته بما بدا أقرب للتهكم:
    -ده أكيد أمها داعية عليها اللي هتتبلي بيك.
    تغاضى عما اعتبره لغوها السخيف، وهتف في تلهفٍ عنيد:
    -وأنا مش عاوز إلا واحدة، من لحمي ودمي!
    زادت تعابيرها عبوسًا وهي تسأله، رغم يقينها بمعرفة من يريد:
    -قصدك مين؟
    تأكدت هواجسها حينما أجاب مبتسمًا على الأخير:
    - فيروزة بنت عمي.
    سكتت للحظاتٍ تراقب تلك اللهفة العجيبة على تعابيره، قبل أن تفسدها بقولها غير الاحترازي، متعمدة إغاظته:
    -اسكت مش اتجوزت!
    حلت الدهشة على كامل تقاسيمه، فتجمد لثوانٍ؛ كأن الخبر الصادم شل ذهنه عن التفكير، استفاق من ذهوله معتقدًا أنها حيلة ماكرة من والدته للمناص من تلك الزيجة، فصاح في حنقٍ:
    -إيه الكلام البايخ ده يامه؟ ما تهزريش وآ...
    باستمتاعٍ ظاهرٍ على تعبيراتها قاطعته وهي تبتسم بتشفٍ:
    -وربنا دي الحقيقة، مرات عمك اتصلت بيا من كام يوم تعرفني، وأنا فرحتلها من قلبي الصراحة.
    هبَّ فضل ناهضًا من جلسته المسترخية في اندفاع، ليصرخ بعدها مستنكرًا حدوث الأمر برمته:
    -اتجننوا دول ولا إيه؟ إزاي تتجوز أصلاً ومافتش سنة على موت أبويا؟!
    ظلت سعاد على وضعها الهادئ، وقالت ببرودٍ لتزيد من استفزازه:
    -وإيه اللي يمنعها؟ طالما بالحلال.
    تصاعد الغضب في صدره، وكز على أسنانه لاعنًا:
    -بنت ال (، )!
    نظرت إليه والدته شزرًا، وهمهمت في جديةٍ ضاعفت من غليل صدره المشتعل:
    -ده ربنا بيحبها إنه نجدها منك.
    حدجها بنظرة مُميتة، بها كل ما يحتد في نفسه من شرور مؤذية؛ لكنها لم ترتدع، أو حتى تهابه، بل إنها استمرت على نفس المنوال المتلذذ في مضايقته، وأضافت:
    -وعريسها مش غريب، اسمه تميم باين، اللي جه هنا وأدبك.
    هدر بها بانفعالٍ أكبر وهو يلوح بيده في الهواء:
    -بس يامه، كفاية بقى!
    ضمت سعاد مرفقيها إلى صدرها، ورفعت ساعدها الأيمن لتستريح بذقنها على راحة كفها، قبل أن تتابع كلامها إليه:.
    -أل وأنا كنت عاوزة أجوزهالك، ده أنا بحمد ربنا ليل نهار إنه ماستجابش لدعائي.
    وكأنها تتعمد إحراق أعصابه بعباراتها المستفزة، فانتفض صارخًا في وجهها:
    -خلاص يامه، اسكتي، كفاية حرق دم فيا.
    لم تعبأ بهياجه المهدد، وهتفت في تحفزٍ وهي تقوم من مقامها:
    -ده إنت لسه هتشوف الغُلب كله!
    سدد لها نظرة مغلولة، قبل أن يغادر محيطها متوعدًا في شراسةٍ:
    -بقى كده، قسمًا بالله لأخربها عليها، مش أنا اللي أتسك على قفايا، وأسكت!
    شيطان رأسه لم يكن ليدعه يمرر ذلك دون انتقامٍ مهلك، حيث بدأت الأفكار الخبيثة والماكرة بالازدحام في عقله، محاولاً انتقاء الأسوأ فيها، الأكثر دهاءً منها، والأقوى في تأثيرها المؤذي عليها، لعَّله حينئذ يعيث في حياتها الفساد، ويمحقها..!
  10. omamer
    رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الثالث والستون
    حين يُقبل عليهما الصباح، كان يشعر بها تنسل من جواره، وهي حريصة كل الحرص على عدم إصدار أي صوتٍ، كأنما لا ترغب في إيقاظه، أو علمه بالأمر، للغرابة ظل مدعيًا استغراقه في النوم، ومع هذا بقي مندهشًا –وحائرًا في نفس الآن- من تصرفها المريب، فقد كانت تغيب لما يقرب من الربع ساعة بداخل الحمام، ثم تعاود الاستلقاء إلى جواره على السرير؛ وكأن شيئًا لم يكن.
    في هذا الصباح تحديدًا، قرر عدم تمرير الأمر دون اكتشاف السر الكائن وراء نهوضها المبكر، فحين همَّت بالتحرك، اشتدت قبضته المحاوطة لخصرها، ومنعها من التحرك، فأحس بتصلبها، كأنما فزعت لاستيقاظه، سألها بصوتٍ شبه ناعس:
    -رايحة فين وسيباني؟
    حاولت تداركت نفسها، وقال بصوتٍ متوترٍ شبه متلعثم:
    -مافيش.
    علق عليها بتشككٍ:
    -بس إنتي كل يوم على كده.
    اعتدل في رقدته، ونظر إليها متفرسًا قبل أن يتساءل في تصميم:.
      -في حاجة مضايقاكي؟
    حاولت فيروزة تسوية خصلات شعرها النافرة، وفركت عينيها سريعًا لتزيح آثار النعاس عنها، قبل أن ترد نافية بنفس الطريقة المتعثرة في الكلام:
    -لأ، ده، أنا بس آ..
    لاحظ لجلجتها المتزايدة، فتساءل متوجسًا:
    -إيه؟ اتكلمي، في حاجة حصلت؟
    بلعت ريقها، وأخبرتها وقد خفضت من رأسها:
    -مش حابة إنك تشوفني منكوشة ولا معمصة وأنا لسه قايمة من النوم.
    ابتسم قليلاً في دهشة، ثم وضع يده أسفل ذقنها ليرفع وجهها إليه، وتساءل:
    -ليه يعني؟
    مطت شفتيها مبررة في حرجٍ:
    -المفروض تلاقيني على طول حلوة وآ...
    قاطعها قبل أن تكمل حديثها متسائلاً:
    -ومين قالك كده؟
    جاءه ردها بسيطًا ومباشرًا:
    -بدل ما تتضايق من شكلي!
    استغرب تفكيرها، وسكت لهنيهة قبل أن يُكلمها باسمًا، وفي نبرته دفقة من الحنان:.
    -طبيعي في أوقات هشوفك تعبانة، وأوقات تانية حلوة، وأوقات غيرها مهدود حيلك، زي ما إنتي هتشوفيني على كل الحالات.
    وجدت نفسها تبتسم تلقائيًا، فتابع بمحبةٍ صافية، ونظراته المفتونة مرتكزة عليها:
    -المهم في الآخر إنك معايا في كل الأوقات.
    إشراقة وجهها تضاعفت مع اعترافه الأخير، وهو يثبت لها يومًا بعد يوم أن عوضها كان أجمل معه. ابتسمت وهي تطلب منه بتهذيبٍ:
    -طيب ممكن أروح أغسل وشي.
    غمز لها قائلاً بلؤمٍ:.
    -وأنا جاي معاكي.
    أدركت أن وراء ذلك الحماس نوبة متجددة منعشة للقلب من خزان مشاعره الفياضة، تلك التي لا تنضب مهما اغترفت منها.
    اشتم رائحة جلبابه العطن، فنزعه عنه باشمئزازٍ معكوسٍ على محياه، وألقاه فوق كومة متراكمة بجوار فراشه، ليفتش في ضلفة دولابه عن بديلٍ آخرٍ يصلح للارتداء، وجد قطعة مهملة في الزاوية؛ لكنها قديمة، اضطر على مضضٍ وضعها على جسده، ثم مشط شعره المهوش، وشد أكمام جلبابه، ليخرج بعد ذلك من حجرته غير المرتبة متجهًا نحو المطبخ. لحظه التعس لم يجد ما يصلح للأكل في الثلاجة، وكانت بطنه تزأر من الجوع، نفخ فضل في سأمٍ وراح يردد في تبرمٍ:.
    -طب إيه العمل؟ أني الحال ده ماينفعش معايا.
    غضبها منه كان لا يزال في أوجه، لم تهدأ ثورتها منه، ولم تصفح إلى الآن عنه، كان مرغمًا على الذهاب إليها، وطلب العفو، وإن اضطر على الكذب وادعاء الندم لتُسير له أموره العالقة. دق على باب غرفتها المغلق، وفتحه دون سماع إذنها بالدخول، ليقف عند عتبته مرددًا بعتابٍ لزج:
    -جرى إيه يامه؟
    تفاجأت سعاد من اقتحامه لخلوتها، ونظرت له بغيظٍ مبكوت، لم تبدُ ملامحها رائقة ناحيته. انقلبت تعبيراتها أكثر وهو مستمر في مخاطبتها:
    -هتفضلي أعدة جوا أوضتك كده وحابسة نفسك؟
    كتفت ساعديها أمام صدرها، ونظرت له شزرًا قبل أن تجاوبه في سخطٍ:
    -أه يا فضل، أنا مبسوطة كده...
    ما لبث أن صارت نبرتها أكثر حنقًا وهي تسأله في ازدراءٍ:
    -ولا ناوي تطردني من فرشتي كمان؟
    ضحك ساخرًا في سخافة؛ كأنما يهزأ من جديتها، ليرد بعدها:.
    -مش للدرجادي يامه.
    علقت عليه بسِحنةٍ منقلبة:
    -ما هو ده اللي كان ناقص.
    سار ناحية طرف فراشها، وجلس عليه محاولاً المسح على ذراع والدته، فنفضت يده عنه، كأنما لدغها عقربٌ، تغاضى عن تصرفها، وقال بنفس السماجة المستفزة:
    -مكانوش حتتين دهب خدته في وقت زنقة، بكرة أجيبلك غيرهم.
    رمقته بنظرة احتقارية، قبل أن تشيح بوجهها بعيدًا عنه، وهي تبرطم:
    -كان القرد نفع نفسه.
    صدمه تعليقها، فتساءل بعينين تعكسان كدره:.
    -بتقولي إيه يامه؟
    أطلقت زفرة مزعوجة، وسألته بعبوسٍ شديد:
    -إنت عاوز إيه مني دلوقتي؟
    تصنع الابتسام وهو يجاوبها:
    -بطمن عليكي.
    كانت على يقين كامل أنه يُحادثها كذبًا، فأمثاله لا يعبأون سوى بأنفسهم فقط، لهذا ردت قائلة بنقمٍ:
    -وأديك اطمنت، سيبني في حالي بقى.
    حك طرف ذقنه مرددًا في جديةٍ:
    -يامه أعدتك دي جابتك ورا، وخلت صحتك في النازل.
    نظرت له من طرف عينها، قبل أن تشيح بوجهها عنه وهي تغمغم:
    -من عمايلك السودة.
      لم يكترث بضيقها الشديد منه، وابتسم ابتسامة زائفة مستطردًا:
    -بقولك إيه..
    ظلت توليه وجهها، رافضة النظر إليه، وهو ما زال يقول:
    -ما تقومي كده يامه تعمليلي أكلة حلوة من إيديكي، ألا بطني تعبت من النواشف، والرمرمة.
    عاودت التحديق في وجهه؛ ولكن بنظرات تشع غيظًا وغلاً، وأصبحت أكثر تجهمًا عندما أكمل ببرودٍ:
    -وبالمرة تشوفي هدومي المتكومة دي، لأحسن عفنت وعاوزة تتغسل، بدل ما أنا مش لاقي هِدمة نضيفة ألبسها.
    لم تعد تحتمل سماع سخافاته المؤذية لها، بل إنها لم تطق وجوده بقربها، فاض الكيل، وامتلأ الصدر غضبًا، لذا انفجرت صارخة في وجهه:
    -بقى جايلي عشان كده؟ قوم من هنا.
    نهض واقفًا على مضضٍ، وأخبرها مستخدمًا يده في الإشارة:
    -ما هو البيت حاله يضرب يقلب وآ...
    قاطعته بصياحٍ بدا أقرب للصراخ وهي تضرب بكفيها معًا في يأسٍ متحسر:
    -واد يا فضل سيبني في حالي، إياكش ربنا ياخدني وأرتاح!
    تراجع مرتدًا للخلف وهو يهسهس في وجومٍ:.
    -يا ساتر، في إيه يامه بس؟
    واصلت الصراخ الهادر في وجهه:
    -غور من وشي، أنا مش نقصاك!
    رمقها بنظرة مغلولة قبل أن يندفع خارجًا من الغرفة، صافقًا الباب بعصبية خلفه وهو يردد بغيظٍ مستاء:
    -معدتش في راحة في البيت ده!
    في غمرة اندفاعه ركل الطبلية الصغيرة الموضوعة على حافتها بقدمه، فطرحت أرضًا، لم يهتم بإعادة وضعها، تركها على حالتها تلك، ليتابع مشيه بخطواتٍ مالت نحو التمهل، وقد شرد لحظيًا في خياله الواهي، متوقعًا أن تسير كامل خططه على ما يرام، مسح براحة كفه على صدره موهمًا نفسه:
    -معلش، مسيرها تروق وتحلى.
    منذ أن وصلت إلى هنا، ورغم جمال المناظر الطبيعية بالمكان، وكثرة الخضرة بها، إلا أن قلبها شعر بالانقباض، فيظل الحبس حبسًا وإن كان في قفصٍ مصنوعٍ من ذهب! التفتت ونيسة ناظرة إلى زوجها بترددٍ، كان الأخير قد أتى معها للمشفى النفسي، للقيام بزيارة شقيقتها، بعد أن سمح الأطباء المعالجون لحالتها النفسية بهذا الأمر. أرادت أن تستمد منه القوة والثبات، فقلبها ما زال يؤلمها على ما أصاب بثينة بالرغم من كل شيء. رأى بدير الحيرة جلية على وجه زوجته، فتساءل بجديةٍ:.
    -متأكدة يا ونيسة إنك عاوزة تفضلي لوحدك معاها؟!
    استقرت جالسة على الأريكة المربعة بالحديقة المورقة الخاصة بأهل المرضى، وخاطبته برنةِ ألمٍ محسوسة في صوتها:
    -دي أختي، هتعملي إيه بس؟ ربنا يُلطف بيها، ويهون عليها اللي هي فيه.
    حذرها مجددًا بلهجةٍ غير متساهلة وهو يشير بسبابته:
    -بس خدي بالك من كلام الدكتور، هي مش مضمونة، ومعدتش مسئولة عن تصرفاتها.
    هزت رأسها في أسفٍ، ثم قالت بحزنٍ:.
    -يا حبة عيني، ربنا معاها، ويزيح عنها.
    صمت مُكرهًا، لا يريد الكلام فيزعجها بواقعية حديثه المؤلم عن تبدل شخصها، فليست من ستقبل على زيارتها تحمل نفس سمات الود والألفة، الحال تغير معها كثيرًا. أكملت ونيسة بعد أن مصمصت شفتيها:
    -ده أنا مصدقت إنهم سمحوا بزيارتها.
    ردد في هدوءٍ أخفى ورائه قلقه:
    -ربنا يعدي الزيارة دي على خير.
    انتظر كلاهما لبعض الوقت، إلى أن لمح بدير إحدى الممرضات وهي تقترب منهما، وكلتا قبضتيها تحاوطان كتفي بثينة ؛ كأنما تستحثها على الحركة نحوهما، قام واقفًا وشملها بنظرة مدققة قبل أن يستأذن بالذهاب:
    -طيب أنا هاروح أشوف إن كان ناقص حاجة كده ولا كده، وبالمرة أدفع شهرية قعادها
    سألته ونيسة في اهتمامٍ:
    -هو هيثم بعت معاك الفلوس يا حاج؟
    أومأ برأسه مجيبًا إياها بعد زفيرٍ سريع:
    -أيوه، زي تملي، ما هو قطع رجله من هنا.
    طلبته منه بما يشبه الرجاء، وتلك النظرة الحزينة تُطل من عينيها:
    -ما تكلمه كده بينك وبينه خلي قلبه يحن عليها، دي مهما كان أمه.
    حرك رأسه بهزة خفيفة، وعلق وهو يهمُّ بالتحرك:
    -حاضر، ربنا يهديه لحاله.
    ابتسمت قليلاً حين عقبت:
    -يا رب، ويرزقك الخير كله يا حاج.
    ودعته بنظراتٍ ممتنة، سرعان ما تحولت للهفة عندما رأت شقيقتها تدنو منها، نهضت لتأخذها في أحضانها وهي تهلل في شوقٍ كبير:
    - بثينة، وحشاني ياختي.
    منعتها الممرضة من الاقتراب منها بتحذيرٍ صارم وواضح:
    -من فضلك يا حاجة، خليكي في مكانك، ده أسلم ليكي.
    تدلى فكها السفلي في صدمة مندهشةٍ، وقالت محتجة بتذمرٍ:
    -عايزاني ماخدش أختي في حضني، ولا حتى أقعد جمبها؟ ده أنا عاوزة أملي عيني منها.
    استمرت الممرضة على أسلوبه الرسمي في التعامل معها، وقالت:
    -معلش، ده لمصلحتك ولمصلحتها.
    رضخت مضطرة لتعليماتها الواضحة، وجلست صاغرة على الأريكة المواجهة لتلك التي تستقر عليها شقيقتها، اقتربت منها بجذعها، وسألتها في صوتٍ حنون تملأوه اللهفة:
    -عاملة إيه يا حبيبتي؟ إن شاءالله تكون صحتك بقت أحسن.
    بالطبع لم تكن لتُجيبها بثينة، بل بقيت على حالة الجمود المريبة تلك؛ لكن نظراتها الغامضة أوحت بشيءٍ غير مريح، ومع ذلك تغاضت ونيسة عما شعرت به، وانتابها لحظيًا من هواجس، لتقول معتذرة بمحبةٍ ودودة:.
    -حقك عليا، أنا مقصرة معاكي أوي، بس يعلم ربنا، أول ما الدكاترة بلغونا إن الزيارة بقت مسموحة ماستنتش، وجيتلك على طول.
    توقعت أن ترى أدنى ردة فعلٍ منها؛ لكنها ظلت كالأصنام، لا حياة، ولا حراك، فقط صدرها يتحرك علوًا وهبوطًا، ليدل على انتظام أنفاسها، أما نظراتها الجامدة المركزة عليها كانت تخفي فيها شيئًا شريرًا. لعقت ونيسة شفتيها، وامتدت يدها لتمسك بالكيس البلاستيكي المسنود وراء ظهرها، أظهرته لها قائلة باهتمامٍ وابتسام:
    -جبتلك كام عباية جديدة تغيري فيهم، ولسه هاشوف ناقصك إيه وأجيبهولك معايا المرة الجاية.
    نظرة خاطفة سددتها ونيسة نحو الممرضة التي التهت بالحديث مع زميلة لها، كما أن هدوء شقيقتها شجعها على الانتقال من موضع جلوسها لتدنو منها، جلست على الأريكة المجاورة لها، وبدت أكثر قربًا منها، متجاهلة عن عمدٍ تحذير الممرضة، وأردفت تخاطبها في حماسٍ:
    -كمان عاوزة أطمنك على هيثم، الحمدلله ربنا صلح حاله، ورزقه بعيل حتة سُكرة، سموه خالد، أهوو يبقى قريب من اسم المرحومة.
    بالطبع لم تكن لتجرؤ على إطلاعها بمسألة زيجة ابنها، نظرًا لحساسية الوضع، فاكتفت بما أخبرتها به من أنباءٍ سارة لا ضرر فيها عليها، حافظت على صفاء بسمتها وهي تكمل:
    -والحق يتقال مراته شايلاه على كفوف الراحة، إن شاءالله يبقى يجيبهم ويجولك.
    ما لم تعلمه ونيسة أن الغليل الحاقد قد تصاعد في صدر شقيقتها، وراح مفعوله المؤذي يسري في عروقها، كأنما يغذي نفسها العليلة بالمزيد من الكراهية والحنق، بلغ غضبها أقصاه في لحظاتٍ، وأوشكت على الخروج عن طور جمودها الزائف، تيبست عضلاتها، وتشنجت أطرافها، وعيناها لا تزال مُسلطة على شقيقتها، إلى أن سألتها الأخيرة بعفويةٍ:
    -إنتي معايا ياختي؟
    عندئذ خرج الوحش الكاسر من مكمنه، واندفعت بثينة بكل ما بها من بُغض مشحون، وعداء مقصود نحو شقيقتها تريد الفتك بها، انقضت عليها، وأطبقت على عنقها، تحاول بيديها خنقها في قوةٍ مهولة لا تعرف من أين استجمعتها. كادت ونيسة تلفظ أنفاسها الأخيرة مع انقطاع الهواء عنها، لولا أن نجدتها الممرضة في اللحظة الأخيرة. أبعدتها بصعوبةٍ عنها، وحررتها من براثنها بمساعدة ممرضات أخريات، لتسعل بعدها سعالاً حرجًا وآثار الألم لا تزال عالقة بحلقها، تم إقصاء بثينة وإبعادها عن محيط شقيقتها، لتعاود الممرضة تعنيفها:.
    -مش أنا حذرتك متقربيش منها!
    سعلت ونيسة مرة ثانية، وقالت في صدمةٍ متحسرة:
    -أنا متخيلتش إنها كده.
    ردت عليها الممرضة بغلظةٍ طفيفة:
    -اللي قصادك دي بقت واحدة تانية، وماظنش إن الدكتور بعد ما يعرف باللي حصل هيسمح بالزيارة من تاني.
    لم تستطع منع عبراتها من الذرف حزنًا عليها، انصرفت الممرضة بتعجلٍ لتلحق بزميلاتها، بينما بكت ونيسة في قهرٍ عاجز، لتردد بعدها بصوتٍ خافت يعبر عن ألمها:.
    -قلبي واجعني عليكي ياختي، لُطفك يا رب!
    مثل تلك الجولات الليلية، على الشاطئ الخالي من البشر، كانت وسيلته للتقرب الودي الممزوج بقليلٍ من الحميمية منها، والإحساس بها محاصرة بين أحضانه، تذوب فيها، وتمنحه استسلامها، عندئذ يمنحها كل الدفء، ويغرقها بمشاعرٍ كانت لا تظن أنها موجودة. ارتفعت ذراع تميم لتضمها من كتفيها، ألصقها بكتفه، وسار معها حافيًا على امتداد الرمال –قبيل غروب الشمس- ودون أن تمس قدماها بقايا تكسر الأمواج الدافئة على الشاطئ. حاول جذبها برفقٍ لتتمشى معه بداخل المياه؛ لكنها كانت تقاومه وتسحبه معها نحو الخارج، استحثه فضوله على سؤالها:.
    -ما تبلي رجلك في المياه، ماشية بعيد عن البحر ليه؟
    شعر بها مستنفرة إلى حدٍ ما وهي تعترف له بعزوفها عن التمتع بمزاياه:
    -لأ مش حابة، أنا أخري أبص عليه من بعيد، لكن مانزلوش، ولا حتى أبل رجلي، استحالة!
    تطلع إلى لؤلؤتيها البراقتين بانعكاس آخر ضوءٍ للنهار فيهما، وتساءل مندهشًا:
    -معقولة؟
    قتلت فيروزة غصة مؤلمة ضربت بحلقها، وأخبرته مقاومة الذكريات الحزينة المتدفقة على عقلها:.
    -البحر غدار، خد مني بابا زمان، ومن وقتها علاقتي بيه من بعيد لبعيد.
    ندم -بداخله- لأنه أفسد ما بينهما من ملاطفاتٍ دون قصدٍ منه، وردد مواسيًا:
    -الله يرحمه.
    ساد الحزن على محياها وهي تتابع استرسالها بإحساسٍ مؤلم لا مفر منه:
    -حقيقي الواحد من غير أب، يتيم، وحيد، مالوش ضهر ولا سند.
    كانت تحملق في الأفق الممتد أمامها، وسحابة من الدموع تزحف نحو عينيها، تنفست بعمقٍ لتمنع نفسها من البكاء تأثرًا لفراق الأحبة؛ لكن صوت زفيرها خرج كشهقة متكومة حين شعرت بضمة قوية تحتويها مجددًا، أطبقت على جفنيها في تعاسة راحت تسيطر عليها، دبت فيها رعشة خفيفة وصلت كذلك إلى قلبها، وصوته الخافت يتسلل إلى أذنها ليهمس لها مؤكدًا:
    -أنا ضهرك وسندك.
    خرج صوتها ناعمًا، منتحبًا، وخفيضًا وهي ما تزال مغمضة لعينيها:.
    -أكيد.
    استرخى ذراعيه عنها دون أن يحررها، أدارها ناحيته برفقٍ، وابتسم قائلاً بقليلٍ من المرح وهو يدور بناظريه على وجهها العابس:
    -تعرفي إن بيقولوا النداهة بتطلع للناس في الوقت ده.
    استرعى الأمر انتباهها، فرددت بملامح اتخذت طابعًا جديًا:
    -نداهة؟!
    أومأ برأسه موضحًا في صوتٍ هادئ وجاد، ويداه تتجولان صعودًا وهبوطًا على جانبي ذراعها:.
    -أيوه، ده بنت حلوة كده جميلة زيك، بتظهر وسط البحر، بتسحر الشباب، فمش بيشوفوا إلا هي وبس.
    استخفت بكلامه، وتحدثت من زاوية فمها متسائلة:
    -ده بجد؟
    هز رأسه مؤكدًا بثقة، وبنفس النبرة الجادة:
    -أيوه، معروفة للكل.
    استنكرت حكايته، وقالت بحاجبين معقودين:
    -والناس بتصدق فيها؟ لأ مش معقول، أكيد تخاريف!
    رد مُزيدًا في الإيضاح المقنع:.
    -ده في حكايات وأساطير عنها، المهم لما الشباب دول يبصولها، بيتعلقوا بيها، وتخليهم ينزلوا البحر وهما مش دريانين، على أساس يعني يوصلولها.
    سألته في اهتمامٍ، وكل أنظارها على ملامح وجهه الجادة:
    -وبعدين؟
    هز كتفيه قائلاً ببساطةٍ شديدة، وقد أبعد يديه عن ذراعيها ليدسهما في جيبي سرواله القصير:
    -مافيش، بيغرقوا!
    انفرجت شفتاها عن صدمة لحظية، قبل أن تهتف في غيظٍ:
    -لا والله؟!
    استمر تميم على نهجه المازح قائلاً ببسمة صغيرة:
    -هما قالولنا كده.
    ساورتها الشكوك لهنيهة أنه يستخف بعقلها، فسألته بنظرة ذكية تشك في أمره:
    -مين دول اللي قالولك؟
    صمت للحظاتٍ، وعيناه قد حادتا عنها لتتطلع إلى أمواج البحر، قبل أن يجاوبها بشيءٍ من الجدية:
    -مش عارف، بس الناس بتوع زمان بيحكوا فيها، وعشان كده تلاقي البحر فاضي وقت المغربية، وقبل الفجر.
    لن تنكر أنها شعرت بقشعريرة باردة تنتشر في أوصالها، لم تستطع مقاومتها، وظهرت آثارها سريعًا على بدنها، تطلعت للأمام مثله، وتساءلت في صوتٍ شبه متوتر:
    -إنت كده بتطمني ولا بتخوفني؟
    التفت ناظرًا إليها وهو يقول بصدقٍ:
    -تخافي إزاي وأنا جمبك يا حبيبتي؟
    حملقت هي الأخرى في وجهه، فتابع بنفس التسلية المرحة:
    -وبعدين النداهة بتطلع للشباب اللي زيي.
    اغتاظت من لمسة الغرور التي استشعرتها في صوته، فكورت قبضتها، ولكزته بخشونة في كتفه وهي تسأله بنبرةٍ متحفزة:
    -أه قولتلي بقى، بتطلعلك النداهة يا معلم؟!
    لم يمنع نفسه من الضحك على ردة فعلها، انفلتت من بين شفتيه المبتسمتين ضحكات قصيرة نابعة من القلب، قبل أن يتوقف وتمتد قبضتاه لتمسك بها من معصميها، أسبل عينيه نحوها هامسًا:
    -وهعمل بيها وأنا معايا القمر كله؟!
    ما عادت تستطيع مقاومة تأثيره الطاغي عليها، في جَده وهزله، له أسلوبه الخاص في جعلها طوع بنانه، في استثارة التوق والرغبة بها، أشاحت بوجهها بعيدًا عنه، وقالت بتبرمٍ زائف:
    -ثبتني!
    جذبها إليه ليقول بنبرة عابثة، وهذه النظرة الماجنة تنطلق من عينيه:
    -التثبيت ده ليه مكانه، مش هنا.
    استجمعت جأشها لتتملص منه، فاستعادت يديها، وتراجعت خطوتين قبل أن تسقط في هوة الحب التي يسحبها إليه بتعويذته العجيبة، اقترب تميم منها خطوة، وخاطبها مبتسمًا:
    -شوفي يا أبلة، مافيش أحلى من نزول البحر في عز الضهر، والشمس فوق دماغك تئورك.
    نظرت إليه في ذهولٍ لا يخلو من التعجب، تضاعف أكثر وهو يضيف:
    -ساعتها بس بتبقى جاتلك ضربة شمس، واتحرقت، وخدت لون محترم، ويا حظك الحلو بقى لو في قناديل، هتتهرى قرص وتسلخات.
    لوت ثغرها هاتفة في استنكارٍ:
    -كده إنت بتشجعني على نزول البحر؟
    تصنع الجدية عندما جاوبها:
    -لأ، أنا بس عاوز أشوفك بتضحكي...
    ومضت عيناها بوهج الحب كتأثيرٍ لعذب عبارته، وزادت لمعانًا حين أضاف بتنهيدة لامست فيها حرارة أشواقه:
    -وده حصل.
    عقبت عليه مبتسمة في نعومةٍ:
    -طب ما تقول نكتة أسهل من جو الرعب ده.
    رد في هدوءٍ يشوبه المرح:
    -معرفش، ماليش في التنكيت.
    عاود التطلع إلى عمق عينيها بنظرة بها دلالات الإغواء المُحكم، شعرت بيده تتخلل أناملها، وتجذبها نحو سلطانه المهلك وهو يخبرها مبتسمًا في مكرٍ عابث:
    -وإن كان على نزول البحر، فأنا أشيلك وننزله سوا.
    أجفلت شاهقة على اقتراحه؛ وإن كان بغرض التسلية، وراحت تحذره بتعابيرٍ انقلبت للقلق:
    -لأ، إياك!
    ثم جاهدت لانتشال يدها من كفه، رفض تركها، وقال بإصرارٍ:
    -بس اسمعيني وجربي.
    انتابتها حالة من الخوف الكبير، وهتفت فيه بتوسلٍ ظاهر في نبرتها، وفزعٍ معكوس في نظراتها إليه:
    - تميم، لو سمحت، أنا مش عاوزة.
    قرأ علامات الرهبة جلية على ملامحها، فلم يستمر في مزاحه، وحرر يدها قائلاً في صوتٍ أجش:
    -حاضر، اللي إنتي عاوزاه.
    هدأت نسبيًا، وتنفست الصعداء؛ لكن سرعان ما انتفض جسدها برجفة لذيذة وهو يخبرها بنبرة عازمة:
    -بس مسيري هعملها في يوم، إن شاءالله أشيلك على كتفي، بس هننزله سوا.
    رمقته بنظرة حادة، وهي تتراجع بضعة خطوات مبتعدة عنه، كأنما تخشى تنفيذه للأمر، حافظ على صفاء ابتسامته وهو يدير رأسه ليحدق في الشط الممتد على مرمى بصره، هبت نسمات من الهواء المنعش على كليهما، جعلت الأجواء تميل نحو البرودة قليلاً، لفت أنظاره أحد الشباب وهو يركض على الشاطئ مقتربًا منهما، كان من الممكن أن يتجاهله، لولا أن لاحظ حركة عينيه وهما ترتكزان بدقةٍ وجرأة على شيءٍ بعينه، ربما غفل تميم عن التنبه له، وجَّه ناظريه إلى حيث يُمعن النظر، فاِربدت قسماته بالضيق الشديد، وأخذ الغضب يتصاعد في صدره، منذرًا بمشاجرة وشيكة، بالكاد ضبط أعصابه، ودنا من زوجته الشاردة في تأمل البحر، ليسحبها من معصمها بخشونةٍ طفيفة خلف ظهره، وهتف متوعدًا بشراسة استغربت منها:.
    -شكل اليوم مش فايت النهاردة، هخزأ عين ال (، )!
    ذُهلت لتفوهه بلفظة نابية، وردت في استنكارٍ:
    -إيه الكلام ده؟
    أجاب في غلظةٍ:
    -ده أنا لسه مقولتش حاجة!
    كان على وشك توبيخه؛ لكنها انتبهت للشاب الذي فر راكضًا بسرعة غريبة حين مر من جوارهما، كأنما ينجو ببدنه قبل أن يتم البطش به لاكتشاف اختلاسه النظرات الوقحة نحوها. سألته مجددًا في انزعاجٍ مستاء وقد استلت يدها من قبضته:
    -إيه الأسلوب ده؟ إنت بتقول شكل للبيع؟
    لم تلن ملامحه القاسية، وخاطبها في عصبيةٍ:
    -بقولك إيه، حاولي تاخدي بالك من لبسك.
    زوت ما بين حاجبيها مرددة في دهشةٍ:
    -لبسي؟!
    لفظ كتلة من الهواء الحارق عن صدره، يثبط بها الغليل المستعر فيه لعدم تلقينه ذلك القمئ الدرس الذي يستحقه، لم تعرف فيروزة ما الذي يدور في رأسه من أفكارٍ عدوانية، واغتاظت من صمته المريب، متوقعة أنها المقصودة بغضبه غير المفهوم، لهذا اشتدت قسماتها، وعاتبته في لومٍ:.
    -وده يخليك تتكلم معايا بالأسلوب ده؟
    صحح لها في نبرةٍ شبه ثقيلة:
    -أنا مقصدكيش إنتي، بس كويس إنها جت على أد الزعيق، بدل ما ارتكب جناية.
    سألته في حمئة وهي تلوح بذراعها:
    -على إيه كل ده؟
    خاطبها بلهجةٍ مالت نحو التشنج:
    -ما أنا ماستحملتش ال (، ) يبص عليكي بقلة أدب.
    فشلت في تحجيم زلات لسانه، وهدرت صائحة فيه بوجهٍ اختلجته حمرة منفعلة:
    -أنا لبسي محترم يا تميم!
    سلط نظره على صدرها، وأشار بعينيه إليه وهو يخبرها:.
    -عارف، بس محتاجة تلبسي من تحته حاجات تانية كده، بدل ما كل المسائل ظاهرة.
    برقت عيناها واتسعتا على الأخير في ذهولٍ تام أولاً، قبل أن تتحول تعابيرها للحرج الشديد، بعد أن أدركت أنه يتحدث عن مفاتنها البارزة من أسفل القماش الملتصق بها بسبب الرياح. من فورها لفت ذراعيها حول نفسها؛ كأنما تحجب تفاصيلها المغوية عن عينيه الحانقتين، قبل أعين الناس المستبيحة لما ليس لها، لتستدير بعدها مهرولة بخطواتٍ مسرعة هاربة منه، لتعاود أدراجها في اتجاه الشاليه.
    كم ودَّت لو كان المفتاح بحوزتها، لما اضطرت أن تنتظره بالخارج وهي في أوج حرجها وغضبها معًا، حرجها لكونه لفت النظر إلى قممها المشدودة بطريقةٍ جعلتها تستنكر غفلتها عن ارتداء حمالة صدر غير قطنية خلال تجولها معه، وغضبها لهياجه الانفعالي الذي كاد يتطور للأسوأ في لحظةٍ غابرة. وقفت في مكانها تهز ساقها في عصبية، وذراعاها ما زالا ملفوفان حولها، بمجرد أن رأته فيروزة مقبلاً عليها، أدارت وجهها للناحية الأخرى، وأولته ظهرها، متعمدة تجاهله. ما إن سمعت الباب يُفتح حتى تقدمته، وولجت للداخل قاصدة غرفة النوم، في حين تلكأ تميم في خطواته تاركًا تبعات الغضب تتلاشى بالتدريج.
    اتجه نحو الشرفة ليشعل إحدى سجائره، وبقي لبرهةٍ في مكانه لا يُحرك ساكنًا، ضجر من الانتظار غير المجدي بعد أن توقع انضمامها إليه في أي لحظةٍ ليتعاتبا ويتصالحا، أطفأ سيجارته الثالثة قبل أن تنتهي، واستدار عائدًا إلى غرفة النوم، كان الباب مواربًا، والغرفة شبه غارقة في الظلام، دفع الباب برفقٍ مناديًا في صوتٍ حذر:
    - فيروزة، إنتي نمتي؟
    لم تجبه، فتابع الكلام وهو ينير الإضاءة:
    -ده أنا قاعد مستنيكي برا.
    سلط نظره على الفراش، فوجده خاليًا، جزع قلبه، وتحولت أنظاره نحو الشرفة، فوجد فيروزة واقفة أمامها، بعد أن بدلت ثيابها بمنامةٍ فضفاضة، طويلة الأكمام، لا تتناسب مع الأجواء الرومانسية لعروسين في أول أيامهما معًا، خمن أنها قد أتت بها في حال نبذ القُرب منها بسبب ندوبها، هذه الندوب التي لو تعلم أنها صارت معشوقته لشعرت بالفخر الشديد لامتلاكها إياها، ناهيك عن كونها برهانًا ملموسًا على تضحيتها العظيمة من أجله.
    تقدم ناحيتها بتؤدةٍ وهو يحك مؤخرة عنقه بيده، وقف خلفها، وناداها بصوتٍ شبه خافت:
    - فيروزة! الوقت لسه بدري، تعالي نقعد سوا.
    لم ترد عليه، ففطن لكونها ما تزال على ضيقها، اعتذر منها في هدوءٍ:
    -حقك عليا.
    أتبع ذلك محاولة جادة لإحاطتها من الخلف وضمها؛ لكنها انتفضت نائية عنه في تباعدٍ غريب اندهش منه، وحز أيضًا بقوةٍ في قلبه. راقبها بنظراته وهي تتجه إلى دولاب الثياب، فتبعها قائلاً:
    -مكانتش حكاية يا فيروزة!
    كأنما كانت تنتظر منه تطرقه للأمر، لتعنفه بصوتٍ جاهدت ألا يبدو مرتفعًا أو حادًا:
    -حتى لو في حاجة غلط فيا، عرفني بهدوء، إيه الصعب في كده؟
    أطرق رأسه مُكررًا أسفه بصوتٍ هادئ:
    -خلاص بقى، حقك عليا.
    فتحت ضلفة الدولاب، وأخرجت منها سترة اعتادت ارتدائها عندما تخرج، ألقتها على ذراعها، واستدارت لتواجهه هاتفة بانزعاجٍ:
    -إنت زعلت مني لما أحرجتك بأسلوبي، وكنت هتنهي جوازنا قبل ما يكمل.
    تلبدت ملامحه في غير ارتياحٍ، بينما استمرت فيروزة في عتابها له:
    -ليه مش عاوزني أضايق لما ألاقيك بتعمل كده معايا؟!
    قال بزفيرٍ سريع:
    -غصب عني، كانت لحظة وعدت، ماتقلبيهاش نكد.
    استثار أعصابها بكلماته الأخيرة، فرغمًا عنها احتدت نبرتها وهي تكرر على مسامعه:
    -نكد؟ هو إنت لسه شوفت حاجة من النكد اللي بجد.
    اندفعت بغضبها المكبوت نحو باب الغرفة، دُهش تميم لتصرفها، وسألها وهو يتحرك من خلفها:
    -رايحة فين؟
    توقفت عن السير، واستدارت لتنظر إليه بتحذيرٍ واضح، قبل أن ترفع يدها أمام وجهه لتشير له بالتوقف، ثم أخبرته في غير مزاحٍ:
    -نام لوحدك بقى.
    رمش بعينيه غير مصدقٍ ما تفعله؛ لكنها تركته لدهشته، وبادرت بالسير مبتعدة عن محيطه، حلَّ الضيق على قسماته، وهتف بها -من ورائها- بصيغة آمرة:
    -استني هنا.
    اعترضت بتصميمٍ معاندٍ له:
    -لأ، اشبع بالأوضة، وبالسرير، أنا هنام برا.
    رقق من نبرته وهو يناديها:
    -يا فيروزة!
    توقفت أمام الأريكة التي تتوسط الصالة الفسيحة، نظرت إليه في غيظٍ، قبل أن تمسك بالسترة وترتديها بعصبيةٍ، لتخبره بعدها وهي تكز على أسنانها:
    -وهنام بالجاكيت كمان، عشان محدش يبص عليا يا سيد المعلمين.
    ما زال تميم على حالته المدهوشة، والمصدومة من تصرفها الذي بدا –من وجهة نظره- طفوليًا إلى حد كبير، تجاهلت فيروزة نظراته الغريبة نحوها، وألقت بثقل جسدها على الأريكة، ثم تصنعت الابتسام، ووضعت ساقها فوق الأخرى استعدادًا للنوم، لم تختفِ ابتسامتها السخيفة عن محياها وهي تخبره:
    -ومن غير زعيق ولا خناق أهوو، نام وقت ما تحب يا معلم، ولو عايز تنزل فبراحتك، إنجوي بالبحر.
    قبل أن تُشبك كفيها معًا، مدت يدها لتغلق مصباح الأباجورة الملاصقة للأريكة، ثم اختتمت كلامها معه:
    -تصبح على خير.
    غرقت الصالة في الظلام في لمح البصر، و تميم ما زال واقفًا في مكانه يُطالعها بنظراته المتعجبة، توقعت فيروزة أن يقوم بردة فعلٍ غير راضية؛ لكنه انصرف مبتعدًا عنها، لتنفخ في تبرمٍ مزعوج، فتقلبت نائمة على جانبها وهي تحدث نفسها:
    -بدأنا النكد بدري بدري!
    حاولت الاستعداد لإغفاءة يشوبها كل الاستياء، بعد أن ظهرت أول علامات الجفاء بينهما، مسحت فيروزة دمعة نافرة من طرفها لا تعرف إن كانت حزنًا على تصرفه، أم ضيقًا من هجرها المتعمد له، تصلب جسدها على الأريكة، واستنفر في تحفزٍ غريب، شبه خائن، تواق لمثل تلك اللمسات الخبيرة، عندما شعرت بيده الحنون تمسح على كتفها، لتسرح بعد هذا نحو ظهرها مما جعله يتقوس قليلاً، كتمت صوت أنفاسها، وادعت استغراقها في النوم؛ لكن على ما يبدو فشلت فشلاً ذريعًا في إقناعه، حيث مال على أذنها يهمس لها بعذوبةٍ:.
    -حتى لو زعلانين من بعض، ماتسبيش السرير وتنامي لوحدك.
    لفحت أنفاسه الحارة بشرتها، وأسكرت نبرته الساحرة عقلها، كشفت عن ضعفها أمام قوة تأثيره عليها، قاومته بيأسٍ متوقعة استسلامها سريعًا:
    -ابعد عني.
    شعرت بذراعه تمر عليها لتحاوطها، وهو ما زال يهمس بصوته الآسر:
    -مقدرش.
    إنه ذلك الدفء المغري الذي يسحبك طواعية نحو موجات من المشاعر والأحاسيس العميقة، أوشكت على التخلي عن غضبها، لكن عقلها قاوم إغرائه، فاعتدلت في رقدتها مهددة بالذهاب:
    -خلاص هاقوم من هنا وآ...
    بترت جملتها في منتصفها، لتتحول لشهقةٍ خافتة، عندما مرر ذراعه الآخر أسفل ركبتيها ليحملها عنوةً، اعتدل واقفًا بها، غير مصدقة أنها بين ذراعيه، وعيناه تطالعها بشغفٍ لذيذ، استعادت قدرًا من صمودها المتلجلج، وقالت بتذمرٍ:.
    -إنت بتعمل إيه، نزلني.
    مال برأسه نحو جبينها، وطبع عليه قبلة صغيرة معتذرة، قبل أن يحدق فيها قائلاً ببسمة منمقة:
    -ماينفعش أسيبك زعلانة.
    كادت ترد عليه؛ لكنه أسكتها بقبلة حسية فتنتها على الفور، بعد أن بث فيها ما هو قادر على إحيائه في وجدانها، لم تقاومه، لم تصده، ولم تمتنع عن مبادلته واحدة مثلها، بل يمكن الجزم بإنه ذوى مع عمقها كل الخصام، وذاب مع تأثيرها كل البعاد، تراجع برأسه عنها لتلتقط أنفاسها، فهمست بلهاثٍ خفيف:
    -خلاص حصل خير.
    جال بعينيه المتفرستين على صفحة وجهها البهي، فكانت تتحاشى النظر إليه؛ كأنما تخشى اكتشاف اتقاد مشاعر الحب في بدنها، ظن أنها ما زالت تحمل في قلبها القليل من العتاب، فراح يقول في مرحٍ شبه جاد:
    -طب إن شاءالله يا رب يجرالي حاجة لو ماسمحتنيش
    انقبض قلبها من عبارته، وتعلقت بعنقه قائلة في خوفٍ حقيقي:
    -بعد الشر عنك.
    أنزلها على قدميها فجأة، وادعى كذبًا الشعور بالألم، واضعًا يده على صدره، وقد انحنى للأمام بشكلٍ يدعو للاسترابة:
    -آه..
    شحب وجهها قلقًا عليه، وسألته في تلهفٍ:
    -مالك؟ إنت كويس؟
    ضغط على شفتيه قائلاً بوجهٍ متقلص العضلات:
    -باين عليكي ماصفتيش من ناحيتي، والدعوة استجابت.
    ردت نافية في التو:
    -لأ، خلاص سامحتك والله.
    عندئذ استقام واقفًا، وأشرقت تعابيره بابتسامة عريضة وهو يقول:
    -حبيبتي.
    اغتاظت من تلاعبه بأعصابها، ومن سذاجتها لتصديق مثل تلك الخدعة الحمقاء. اكتسبت تعابيرها قدرًا من الكدر وهي توبخه:
    -إنت بتهزر بقى، طب حاسب.
    حاولت المرور من جواره؛ لكنه استوقفها بالإمساك بها من رسغها، جذبها إليه في قوةٍ طفيفة لترتطم بصدره، وصوته يرن بتسلطٍ متحكم:
    -أحاسب مين، ده حتى الصلح خير.
    قبل أن تفكر في مقاومته، كان تميم قد انحنى ليحملها في سرعةٍ لم تستوعبها لحظتها، ألقاها على كتفه، فتدلى جسدها خلفه وسط شهقاتها المصدومة، أحكم تقييد ساقيها بذارعه القوي، لئلا تفكر في ركله، ضربت بيديها على ظهره صائحة فيه في استنكارٍ جلي:
    - تميم، نزلني، كده مايصحش!
    انفلت من بين شفتيها شهقة كانت أقرب لصرخةٍ صغيرة، وقد شعرت بوخزات مفاجئة من الألم تنتشر على كل عجزيتها بغتةً، جراء تلك الصفعة التقريعية المعاقبة لها، شهقة أخرى لحقت بالأخرى وهو يكرر نفس الفعلة الحازمة على مؤخرتها مع أمره الصارم:
    -يالا يا أبلة على سريرك.
    تلونت كامل بشرتها بحمرة عظيمة، وصاحت في استهجانٍ حرجٍ للغاية:
    -إنت بتعمل إيه؟
    بدت تقاسيم وجهه جادة وهو يخبرها محذرًا، رغم الوميض العابث المتراقص في حدقتيه:
    -ده تحذير يفكرك بإن مهما حصل بينا، تفضلي في أوضتك، وماتسيبهاش!
    أدركت حسيًا، وجسديًا، وعقليًا جدية تحذيره، فقالت بطاعة واضحة:
    -خلاص ماشي...
    رجته بدلالٍ مهتز وهي تحاول رفع رأسها المتدلية:
    -ممكن تنزلني بقى؟
    انعكس على وجهه شبح ابتسامة أكثر عبثية عما مضى، وقال في نبرة موحية، أشعلت نيران الحب في جسدها، ويده تستعد لجولة أخرى من الصفعات اللذيذة التأديبية:
    -ماشي كده على الناشف، ده أنا لازمًا، وحتمًا، ولابد أفكرك بطريقتي...!
  11. omamer
    رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الثاني والستون
    بدأ عبق الحب يفوح حقًا، ويملأ قلبه الهائم في رحاب هَواها، منذ اللحظة الأولى التي نطقت فيها بأنها تعشقه، ورغم صدمته المسرورة للغاية من اعترافها النزق بوقوعها في حبه، إلا أنه لم يتمكن من التعبير عن مدى فرحته العارمة بحقيقة إحساسها ناحيته إلا بصورة حسية، ملموسة، تترسخ في الوجدان، وتجعل الصخر يذوي أمام فيضانات المشاعر المتدفقة، كأنما حطت غيمات سحب محبوس عذب مائها على صحراءٍ قاحلة اشتاقت منذ أدهرٍ لما يروي عطشها.
    لكن المفاجأة التي غطت على كل شيء، وجعلته لوهلةٍ عاجزًا عن التفكير أو الاستيعاب هو اكتشافه لمسألة عذريتها، كيف يمكن أن تبقى هكذا بدون مساسٍ؟ ألم تعش لأشهر مع زوجها تحت سقفٍ واحد؟ أم تراه كان زاهدًا فيها؟ وكيف يزهد مثله بالظفر بمحاسن زواجه منها وهو على يقينٍ كامل برغبته فيها؟ هناك سر خطير بالأمر، سرٌ لا يعلم تفاصيله بعد، ربما كان السبب في انهيارها، في دفعها لحافة السقوط، في إغراقها وسط دوامات الألم والتعاسة، وبُغض الحياة، قبل أن تستعيد نفسها.
      في أعماقه كان يشعر بالرضا الكبير، بالسرور العظيم، وبعوض المولى له، ومع ذلك لم يتجرأ وقتئذ على سؤالها، ليس خشية من المواجهة، أو الشك في أمرها، وإنما لطمعه في أن يحظى بكامل ثقتها، قبل أن تتطور علاقتهما المستجدة لما هو أعمق وأقوى، لذا عليه أن يصبر لبعض الوقت، وينتظر بلا تعجل، فيتخذ مكانه بدلاً من طبيبتها التي ناحت، وباحت، وراحت تحكي لها عن كامل أسرارها.
    شعر بها وهي تتقلب على جانبيها، بالكاد غَشِيه النوم بعد غفلته العميقة قبل حمامهما الدافئ. على قدر المستطاع حافظ تميم على انتظام أنفاسه، ليبدو نائمًا وهي تتحرك بأريحيتها على الفراش، لئلا تشعر بالخجل، وتبتعد عنه، بعد أن تنعَّم بدفئها. امتدت ذراعه في حذرٍ نحو الكومود ليلتقط هاتفه المحمول، نظر إلى التوقيت، ما زال الوقت مبكرًا، همَّ بإعادته إلى موضعه الأول؛ لكنه شعر باهتزازة صغيرة، تعلن عن وصول رسالة نصية، تصلب قليلاً وهو يفتح ليقرأ محتواها، وجدها مرسلة من ابن خالته، فحرك شفتيه دون صوتٍ:.
    -لما تصحى من النوم كلمني ضروري.
    بحدسه المستريب، أدرك وجود خطب ما، فسحب ذراعه بحرصٍ شديد، ونهض بلا صوتٍ من على طرف الفراش، ليسير على أطراف أصابعه متسللاً خارج الغرفة. أغلق الباب في هدوءٍ، ومشى بعيدًا ليهاتفه. بعد تحية سريعة، تساءل في صوت جاد وخفيض:
    -في حاجة حصلت؟
    أخبره هيثم دون تمهيدٍ:
    -مرات عم خليل نفذوا فيها حكم الإعدام النهاردة الفجر.
    بهتت ملامحه لحظيًا، ثم قال في أسفٍ:.
    -الله يرحمها، كل واحد بياخد جزاء أعماله.
    تابع هيثم كلامه إليه بنفس النبرة الجافة:
    -أنا قولت أعرفك عشان أنا موجود مع الجماعة، لأن بلغونا نستلم الجثة، وتصريح الدفن.
    حك تميم مقدمة رأسه مرددًا في همسٍ:
    -تمام.
    أضاف أيضًا فيما بدا وكأنه تشدد طفيف:
    -حماتي بتقولك كمان متجبش سيرة لمراتك إلا بعدين، مالوش لزوم تعكنن عليها وعليك.
    رد في تبرمٍ:
    -ربنا يسهل..
    سكت لحظيًا، وخاطبه وهو يلف في مكانه بحركاتٍ شبه عشوائية:.
    -عمومًا لو احتاجتوا لحاجة كلمني يا هيثم.
    رد عليه مؤكدًا:
    -متقلقش، كله مقضي بأمر الله.
    طلب منه تميم بنوعٍ من التعاطف:
    -ابقى اطمن على عم خليل، وتابعوه.
    علق عليه ببساطةٍ:
    -ما احنا هنكون معاه اليومين دول.
    استحسن رده، وقال:
    -كويس.
    اختتم هيثم مخابرته معه قائلاً:
    -ماشي يا عريس قلقتك.
    لم تتبدل نبرته الخافتة وهو يعقب منهيًا الاتصال كذلك:
    -ولا يهمك، سلام.
    أطلق تميم زفيرًا طويلاً، ليردد بعدها في إشفاقٍ:.
    -وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ، ربنا يحسن ختامنا جميعًا
    كان من الجيد بالنسبة إليه –ووفقًا لظروفه المستجدة- أن يتبع نصيحة آمنة، فلا داعي لإفساد صباحه الجميل بمثل تلك الأخبار التعسة، والتي حتمًا لن يكون مردودها محمودًا في بقية يومه.
    على غير المتوقع، لم تأتِ، ولم تمر عليها، ولم تهاتفها حتى، كأنما تناست أمرها كليًا، ولأنها حادة الذكاء بطبعها في بعض الأمور، وشديدة الملاحظة في أمورٍ أخرى، كان من غير اليسير عليه أن يخدعها بسهولة؛ لكنه تحايل، وراوغ، وتحاور، واعتمد على الحظ في تسيير الظروف. مشطت فيروزة شعرها، وعقدت خصلاته معًا في ذيل حصانٍ، ثم التفتت –من مكانها على مقعد تسريحة المرآة- ناظرة إلى زوجها الممدد على الفراش تكلمه في استغرابٍ:.
    -أنا اتفاجئت إنها مشيت ومعدتش عليا، مع إنها مأكدالي ده من إمبارح.
    وسَّد ذراعه خلف رأسه المستريح على عارضة السرير معللاً في هدوءٍ:
    -جايز عشان تسيبنا على راحتنا.
    ابتسمت وهي ترد:
    -ممكن برضوه.
    نهضت من مكانها، واتجهت إليه وهي تضم طرفي روبها الأحمر معًا لتغلقه، ثم جلست على الطرف الآخر من السرير، وتطلعت إليه وهو يواصل محادثتها:
    -وبعدين هيثم موجود، يعني لو في حاجة حصلت هيتصرف.
    بدت معالم الانزعاج تتسلل إلى محياها، ورددت في ريبةٍ تشعر بها تراودها في أعماقها:
    -ربنا يستر، قلبي مش مطمن.
    رمقها تميم بتلك النظرة المرحة وهو يمازحها:
    -إنتي هتدوري على النكد من أول يوم، طب خلينا نقدم شوية في الجواز.
    انقلبت تعابير وجهها إلى تجهمٍ شديد، وسألته بصيغة تحمل اللوم:
    -يعني أنا نكدية؟
    مال ناحيتها، ثم مد يده ليجذبها من ذراعها إليه، لتبدو أكثر قربًا منه، وقال باسمًا:
    -لأ يا ستي أنا اللي بائس.
      تبدد الوجوم، وحلت علامات الإشراق على وجهها مرة ثانية، أتبعها ضحكاتٍ قصيرة عالية، بعد بعض المداعبات والمغازلات الشقية، التي جعلتها تفيض حبًا وحنانًا، وتخرج عن طور التعاسة الملازم لها. اعتدل تميم في رقدته، وأمرها بودٍ وهو يشير إليها:
    -تعالي.
    استجابته له، فتبعته ناهضة من مكانها وهي تسأله بفضولٍ:
    -هنروح فين؟
    اتجه نحو الدولاب ليفتح الضلفة، وأجابها:.
    -مأجر يومين كده في شاليه، أهوو نغير جو، ونبقى على راحتنا أكتر.
    رفعت حاجبها في دهشةٍ لا تخلو من إعجاب، ثم عقبت مبتسمة:
    -ده إنت عامل ترتيبك لكل حاجة.
    استدار ناحيتها، وقال متغزلاً، وهذه النظرة الناعمة تطل من عينيه:
    -طبعًا، هو حد يبقى متجوز القمر ده كله، ومايدلعوش.
    خفَّضت من ذراعها، لتضعه على منتصف خصرها، ثم خاطبته في دلالٍ:
    -أنا هتغر في نفسي.
    رمقها بتلك النظرة العميقة، قبل أن يؤيد كلامها بمزيدٍ من التملق اللذيذ:
    -حقك، لو الطاووس متغرش، هايبقى مين تاني؟!
    كان شارد اللب، ساهم النظرات، تبدو في عينيه التعاسة جلية، كما تظهر عليه علامات الإعياء، والحزن. تحرك خليل مستندًا على عكازيه، بعد أن فُتح باب المنزل، ما إن بلغ أقرب أريكةٍ حتى ألقى بثقله عليها، تبعته شقيقته تواسيه وهي ترأف بحاله المهموم:
    -دي مشيئة ربنا يا خليل، هي خدت جزائها.
    لم ينظر إليها، بدا منفصلاً عمن حوله بذهنه، كان محدقًا في نقطة وهمية بالفراغ؛ كأنما مر على عقله شريطًا تسجيلاً –لا يراه سواه- يعرض عليه سنوات حياته مع زوجته الأولى، بكل ما فيها من حلوٍ ومُر، نزاع واتفاق، إلى أن وصل معها لمفترق الطرق. تنبه لصوت همسة وهي تردد في تعاطفٍ:
    -معدتش يجوز فيها غير الرحمة دلوقتي يا ماما.
    لم يطق البقاء ورأسه ممتلئ بعواصف أفكاره المتصارعة ومشاعره المتأرجحة ما بين لومٍ وحزن، وقهر وغيظ، تحامل على نفسه لينهض من أريكته، سألته آمنة في اهتمامٍ:
    -خير يا خويا؟ عاوز حاجة أعملهالك.
    استند مجددًا على عكازيه، وقال برأس مطأطأ في خزيٍ:
    -س، يبوني لوح، دي شوية.
    اعترضت على ذهابه قائلة بتوجسٍ:
    -أسيبك وإنت في الحالة دي؟ خليك معانا.
    رد بإصرارٍ:
    -لأ، أن، ا عاوز أف. ضل مع نفسي.
    أشارت لها همسة بالتوقف عن الضغط عليه، فهزت رأسها كتعبيرٍ عن تفهمها، ثم استطردت هاتفة على مضضٍ وهي تسير إلى جواره:
    -حاضر يا خويا، ارتاح إنت ومتشغلش بالك بحاجة، المهم عندنا سلامتك.
    تعلقت أنظار كلاً من هيثم و همسة عليهما، إلى أن غادرا محيطهما، فتساءلت الأخيرة في اهتمامٍ جاد:
    -هنعمل إيه يا هيثم؟
    تنهد سريعًا، وعقب وهو يدير سلسلة مفاتيحه في سبابته:.
    -خليكي معاهم النهاردة، وأنا هاخلص شغلي وأعدي عليكي آخر اليوم.
    هزت رأسها متمتمة:
    -طيب، خلي بالك من نفسك.
    التف متجهًا نحو الباب وهو يتابع كلامه إليها:
    -حاضر، لو ناقصك حاجة كلميني أجيبهالك وأنا جاي.
    تحركت خلفه مرددة بتهذيبٍ:
    -ماشي يا حبيبي.
    ودعته بابتسامةٍ لطيفة قبل أن تغلق الباب، ثم استدارت سائرة في اتجاه المطبخ بعد أن ألقت نظرة سريعة على رقية التي انشغلت باللعب مع دُميها. وقفت عند حوض غسل الصحون لتبدو قريبة من أمها، وهدهدت رضيعها متسائلة:
    -بقولك يا ماما، أعرف فيروزة باللي حصل؟
    أدارت الأخيرة رأسها ناحيتها ترد محتجة في تزمتٍ:
    -لأ يا همسة، عاوزة تنكدي على أختك يوم صباحيتها؟ ده حتى يبقى فال وحش!
    علقت بنبرة غير مبالية:.
    -هي مكانتش بتحبها من الأساس، فمظنش هتفرق معاها إن كانت حمدية عايشة ولا ميتة.
    عبست آمنة بتعبيراتها قائلة في ضيقٍ:
    -برضوه، خليها تتهنى مع عريسها يومين، مش كفاية معدتش عليها!
    ضحكت بخفوتٍ، وقالت في عبثية:
    -هي فايقلنا، تلاقيها غرقانة في العسل مع المعلم تميم.
    أنذرتها والدتها بإشارة صارمة من عينيها:
    -بطلي نَبر، وتعالي نشوف هنعمل إيه في الأكل.
    أومأت رأسها قائلة بطاعةٍ يشوبها القليل من الابتسام:.
    -حاضر، هنيم خالودة على السرير، وأجي أقف معاكي.
    لا يعرف ما الذي حدث رغم قيادته الحذرة على الطريق؛ لكنه شعر باضطراب حركة السيارة الاعتيادية بشكل دعاه للانتباه، ومن ثمَّ سماعه لصوتٍ غير مريح أقلقه للغاية، ليلاحظ بعدها وجود عطبٌ ما بالإطار الأمامي، فاضطر أن يتوقف على الجانب، وقام بتبديله. ظلت فيروزة باقية في السيارة، نزولاً عند طلب زوجها بملازمة مكانها إلى أن ينتهي من مهمته الطارئة، اشرأبت بعنقها محاولة رؤيته، ثم سألته:
    -إيه الأخبار؟
    نهض واقفًا، ومسح بخرقةٍ قديمة يديه، قبل أن يجاوبها بأنفاسٍ إلى حدٍ ما لاهثة:
    -خلاص، بدلت الفردة النايمة بالاستبن.
    استحسنت صنيعه، وعقبت:
    -كويس إنها جت على أد كده.
    هز رأسه قائلاً:
    -الحمدلله، قضا أخف من قضا.
    راقبته بنظراتها المهتمة، وهو يحمل الإطار المستبدل، ويضعه في صندوق السيارة، قبل أن يسحب زجاجة مياه يحتفظ بها كذلك بالصندوق ليغسل بها يديه. أغلقه ثم سار نحو المقدمة، واستقر إلى جوارها مرددًا:.
    -نتوكل على الله.
    وضعت يدها على كتفه تضغط عليه في رفقٍ، لتوصيه بعدها بابتسامةٍ رقيقة:
    -سوق على مهلك، خلينا نوصل بالسلامة.
    ربت تميم على يدها الحانية، وأسبل ناظريه ناحيتها، ليرمقها بنظرة شغوفة، تواقة، مشتاقة، ثم استطرد هاتفًا في سرورٍ ينعش ثنايا القلب:
    -عينيا.
    أسكره حبها حد الثمالة، فحجب عنه ما سواها، وأسقطه في هوة الولع الشديد بها، تلك الهوة التي لا يريد الخروج منها ما عاش من عمره! وقف كلاهما يستندان إلى حافة الشرفة الفسيحة التي تقع في الدور الثاني من المصيف المستأجر، بحيث يتمكن الرائي من مشاهدة البحر وشاطئه الرملي دون عوائق. أراحت فيروزة مرفقيها على السور، وقالت بعد شهيق عميق معبأ برائحة البحر، ملأت به صدرها:
    -حلو المكان، والمنظر من هنا تحفة.
    امتدت ذراعه لتحاوط خصرها في رفقٍ، ونظر إليها ملء عينيه هاتفًا:
    -الصراحة الحتة دي كنز للي يقدرها...
    اجتذبها إليه في تؤدةٍ، لتصبح ملاصقة لصدره، ثم شدد من ضمه لها، وبدأ في مغازلتها هامسًا بالقرب من أذنها:
    -بس بقت أحلى وإنتي فيها.
    ارتعش قلبها، وتلبكت وهي تتخيل ما يمكن أن يفعله معها وسط تأثير تلك الطبيعة الخلابة، تسربت حمرة طفيفة إلى وجنتيها، وجاهدت ألا تنظر ناحيته، ليظل بصرها معلقًا بالأمواج الهادئة. كأنما قرأ ما دار في خلدها من جموحٍ عابر، فبادر بتنفيذ ما تمنته في أحلامها، على طريقته المغرية. تأويهة ناعمة انفلت من بين شفتيها، وهو يمرر يده على خدها كأنما يدغدغه بلمساتٍ محفزة، حاولت الانسلال من حضنه المغري؛ لكنها كانت محاصرة بين جسده، وبين سور الشرفة، همست إليه بصوتٍ كان أقرب إلى الإغواء عن الرجاء:.
    - تميم.
    أتاها صوته خافتًا، عميقًا، ومؤثرًا بقوة على خلايا الحسية، والشعورية:
    -عيون تميم.
    أطبقت على جفنيها، وتركت للخيال المحض الفرصة لمعايشة ما يفعله بكامل الوجدان، والإحساس، أخرجتها قبلاته الخبيرة من حالة الإدراك، ودفعتها نحو متاهات العشق، فتاهت الأحرف، وتبخرت العبارات، لتغيب في مزيج مشوق من العواطف الجياشة، كان كل جزءٍ فيها يناديه، يبتغيه، يريد منه المزيد، سحبها معه بهوادةٍ نحو الداخل، بعيدًا عن الأعين المتلصصة، وراح يغرقها بأضعاف ما حظيت من قبلات، كل واحدة منها توقد الكامن فيها من رغبة وتوق. بالكاد توقف تميم عن إكمال نوبة الحب التي أشرق معها القلب، وابتهجت بها الروح ليقول بصوتٍ لاهث:.
    -بحبك.
    شاركته نفس المشاعر، فهمست:
    -وأنا محبتش زيك.
    مع عفوية اعترافها المتكرر، أيقن أن أسعد لحظات حياته ما زالت في الانتظار، ويا له من محظوظ لينال مكافأة صبره بعشقها! التف ذراعاه حولها، فشعرت بقوة ضمته المتملكة تأسرها، تخطفها، وتنقلها إلى هذا العالم الجديد كليًا عليها، توقف مرغمًا عن نيل مآربه منها حين سألته:
    -هناكل إيه؟
    قال في شيءٍ من الجدية وهو يرخي ذراعيه عنها:.
    -بصي، أنا هنزل أجيب أكلك، وإنتي ارتاحي شوية، مش هتأخر عليكي.
    هزت رأسها مرددة وهي تتحرر من حصاره:
    -أوكي.
    لم يترك يدها، بل جذبها مرة واحدة ناحيته لترتطم بصدره، فتحيط بها ذراعه الآخر، ليقول في عذوبة، وعيناه تجريان على صفحة وجهها:
    -هتوحشيني الشوية دول.
    ضحكت في ميوعةٍ عفوية، قبل أن تعلق وهي تضربه ضربة خفيفة على صدره بقبضتها المضمومة:
    -ماتبقاش بكاش.
    عقد حاجبيه مرددًا:
    -بكاش!
    حركت فيروزة شفتيها لترد؛ لكنه كان الأسبق في لثمهما بخاصته، ليعطيها قبلة مولعة، شغوفة، ذات تأثيرٍ أقوى وأعمق عليها، التقطت أنفاسها بصعوبة، ونظرت إليه من بين أهدابها المسبلة لتسمعه يردد:
    -ده أنا صبرت صبر محدش صبره، عشان في الآخر ربنا يكرمني بيكي.
    وكأن في عبارته لومًا مستترًا، فراحت تسأله في استغرابٍ مستنكر:
    -وأنا كنت فين من ده كله؟ إزاي مخدتش بالي؟
    قال ويداه تمسدان ظهرها في نعومةٍ ورفق:.
    -مكانش ينفع أقول حاجة من غير ما أكون متطمن إنك عاوزاني.
    امتلأت نظراتها بالندم الواضح، فتابع متسائلاً في ترقبٍ:
    -بس يا ترى كنتي حاسة بيا؟
    أسبلت لؤلؤتيها لتجاوبه بعد صمتٍ مدروس، وبابتسامة ناعمة تزين شفتيها:
    -كنت شاكة، حاسة بحاجات، وتلميحات، وكدبت نفسي، قولت احتمال تكون أوهام.
    شعر بالنشوة لسماعه مثل تلك الاعترافات العفوية، وتساءل متشوقًا:
    -ودلوقتي؟
    شبت على أطراف أصابعه لتغدو أكثر طولاً، ثم لفت ذراعيها حول عنقه، وتعلقت به، منحته تلك النظرة اللعوب، المصحوبة ببسمةٍ ضحوك وهي تخبره في عبثية:
    -ندمانة إني ضيعت الوقت اللي فات ده كله من غير ما نكون سوا.
    كأنما أوقدت جمرات الحب، وأوصلتها في التو لأوج اشتعالها بهذه العبارة المفعمة بكل ما كان يرجو سماعه، أقبل عليها يُقبلها في شغفٍ، وهو يهمس مُجَدِّدًا اعترافه:
    -بعشقك.
    بادلته الاعتراف بآخر ضاعف من توهج مشاعره:
    -وأنا بحبك أوي.
    أرجع رأسه للخلف مهللاً في ابتهاجٍ عظيم:
    -الله!
    عاود التحديق في عمق عينيها الساحرتين، وتكلم في لوعة وشوق:
    -ياما كان نفسي أسمع الكلمة دي منك، ومن قبل ما أسمعها، إنك تحسيها.
    للحظاتٍ معدودات غابا مرة ثانية في آفاقِ سماء الحب التي تظللهما، بصعوبةٍ واضحة عليه، تراجع تميم عنها ملتقطًا أنفاسه وهو يهمس لها بنبرة موحية:.
    -شوفي أنا لو فضلت كده، مش نازل، ولا طالع، ولا رايح في حتة.
    علقت في دلال الفتاة العاشقة للحب وتبعاته:
    -وأنا عاوزاك جمبي.
    سحبها إلى أعتاب موجة عاصفة مزلزلة للكيان، تجاذبا، تقاربا، تداعبا، تلاطفا، تعمقا، إلى أن غاصا فيها بكل ما اندفع في جسديهما من طاقاتٍ متواترة، ومتزايدة، فجرت كل خلاياهما بالرغبة والتوق، لتجعلهما في الأخير يحظيان بذكرى أخرى جديدة لن تنسى بينهما.
    استلقت باسترخاء على الأريكة المنبسطة الموضوعة في الشرفة، رافضة تناول المزيد من الطعام، بعد أن امتلأت معدتها بالشهي اللذيذ منه. تمنعت حين امتدت يد تميم لإطعامها بلقيمة أخرى، ورفضت بتهذيبٍ وهي تبعد رأسها عن أصابعه:
    -والله شبعت، مش قادرة خالص.
    قال في تصميم، وهو يرمقها بتلك النظرة الحنون:
    -عشان خاطري، الحتة دي وبس.
    أشارت فيروزة إلى بطنها المنتفخ، وقالت ممازحة:
    -أنا طلعلي كرش خلاص.
    ابتسم معلقًا في غير اكتراث:
    -ما يطلع ويبقلل، إيه يعني؟
    أشارت بيدها معترضة في لطفٍ:
    -لأ برضوه، أنا أحب أحافظ على وزني.
    لم تفتر ابتسامته وهو يخبرها بصدقٍ، بكلمات نفذت في التو إلى أعماق قلبها:
    -وأنا حابك في كل حالاتك.
    حانت منها نظرة دافئة إليه يغلفها التوق، وردت وهي تميل برأسها ناحيته لتتناول من يده ما يقدمه لها:
    -ربنا يقدرني وأسعدك.
    جعلها تقطم جزءًا صغيرًا مما في يده، وتناول البقية وهو يضحك باستمتاعٍ، لتشاركه الضحك هي الأخرى مبدية تمتعها بمداعباته الشقية قبل أن تتطلع مرة أخرى إلى الشاطئ. في هذه اللحظة تحديدًا، أراد تميم بشدة رفع حاجز الحذر بينهما، والاسترسال بلا قيودٍ أو معوقات، سحب نفسًا عميقًا لفظه على مهل، ثم استهل كلامه مناديًا في عذوبة:
    - فيروزة.
    استدارت بوجهها المبتسم تجاهه، وردت:
    -نعم.
    لم يطرف بعينيه وهو يُحادثها بهدوءٍ:.
    -ممكن أسألك على حاجة.
    بدت متحمسة لسماعه حين قالت:
    -اتفضل.
    تنحنح هاتفًا بمزيدٍ من الاحتراز:
    -هي حاجة محيراني شوية...
    رمقته بنظرة ذكية متشككة قبل أن تتشجع للتوضيح في صيغة متسائلة:
    -بخصوص إمبارح؟
    بترقبٍ يحاوطه المزيد من الحيطة أوجز في رده:
    -أيوه.
    انتظر منها أن تتابع الحديث، وركز كل بصره عليها يتابع أدنى تغيير في ملامحها، وحدث ما ظنه، حيث بدأت بسمتها النضرة تذبل قليلاً، وحتى نظراتها ساد فيها حزنًا غريبًا. انتقى بعنايةٍ كلماته وهو يستطرد متسائلاً:
    -هو ال، المرحوم مقربش منك؟
    وكأن غضب الدنيا قد تجمع في عينيها وهي تقاوم اندفاع الذكرى المشؤومة إلى عقلها، هتفت في حرقة رافضة حتى الدعاء له بالرحمة:.
    -الله ينتقم منه، ويحاسبه على كل اللي عمله فيا، كان السبب الأساسي في انتكاستي.
    لم يضغط عليها ليحصل منها على المزيد من المعلومات، بل انتقل من موضعه ليجلس بجوارها، مسح بيده على جانب ذراعها، وقال في صوتٍ اخشوشن قليلاً، وحمل بين طياته الوعيد:
    -أه لو كان لسه حي، مكونتش سيبته للحظة يعيش فيها بعد ما أذاكي، الموت خلصه من اللي كان هيشوفه على إيدي.
    خنقت فيروزة غصة مؤلمة أصابت حلقها، وتابعت بحدقتين اجتمعت فيهما العبرات المتأثرة:
    -هو كان عنده عِلة، طلعها فيا، بحيث يداري على عيبه، ويا ريته اكتفى بكده ده كان...
    عجزت عن ضبط انفعالاتها الثائرة على إثر ما اقتحم مخيلتها من آثار وجيعته، فانفجرت باكية بشكلٍ هيستري وهي تستعيد ذكرياتٍ أخرى أشد إيلامًا على روحها، شعر تميم بالندم على تطرقه لهذا الأمر، وجذبها بحنوٍ نحو صدره ليحتويها بذراعيه، ترفق في ضمها، وراح يقبل جبينها معتذرًا في أسفٍ:
    -حقك عليا، خلاص اهدي، كله ده انتهى.
    بكت على صدره قائلة بصوتها يملأوه الشجن:.
    - تميم، أنا معاك ببدأ صفحة جديدة من حياتي، مش عاوزة أفتكر الماضي، أنا مصدقت عديته.
    أراح الموت آسر من بطش شرير لا يعلمه سوى الله، زاد تميم من قوة ضمه لها، وكرر اعتذاره النادم:
    -أنا محقوقلك، مكانش قصدي أفكرك.
    بقيت لبرهة في أحضانه، تلملم شتاتها الذي تبعثر، إلى أن سكنت تمامًا، وهدأت أنفاسها المنفعلة، أبعدها عنه قليلاً دون أن يحررها، نظر إلى وجهها المبتل، ورفع يده نحو بشرتها يزيح عبراتها الساخنة عن وجنتيها قائلاً بابتسامةٍ غير واثقة:
    -خلاص بقى، مش عاوزين نبوظ الأعدة الحلوة دي.
    هزت رأسها توافقه الرأي، فاقترح بوجهٍ حاول جعله هادئ التعبيرات ليخفي ورائه ما استعر في قلبه من غضبٍ مبرر، لعجزه آنذاك عن درأ مصائب ذلك الوضيع عنها:
    -إيه رأيك ننزل نتمشى شوية على البحر؟
    حركت كتفيها مرددة في تحيرٍ:
    -مش عارفة.
    أصر عليها بلطفٍ:
    -الجو حلو، وحرام نضيع الفرصة دي.
    لم تبدُ في حالة مزاجية تسمح لها بالتجول؛ لكنه جعل الرفض خيارًا مستبعدًا بمنحها قبلة رقيقة على خدها وهو يطلب منها:
    -عشان خاطري.
    أزاحت فيروزة بظهر كفها العالق في أهدابها من دموعٍ تشوش رؤيتها، وأبدت قبولها بإيماءة صغيرة من رأسها، لانت تعابيره العابسة إلى حدٍ كبير، وأضاءت نظراته مع بسمتها الخفيفة، أعاد تميم جذبها لأحضانه، فاستراحت برأسها على صدره، شعرت بالدفء يغمرها مرة أخرى، لتستعيد بهوادةٍ مرحها مع قدرته العجيبة على تطييب جراحها غير الظاهرة، فقد كان محترفًا بطريقة خاصة –للغاية- في ذلك الأمر، بل وله أسلوبه الشهي المثير في إعادة القلب لإشراقه، واستعادة الروح لابتهاجها...!
  12. omamer
    رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الحادي والستون
    لم يَكُف، ولم يكتفِ بعد منها، أرادها بشدة، ورغبتها فيه صارت أشد، تلاحمت الأجساد، وتعانقت في تناغمٍ عجيب، كأنما يعزفان مقطوعة موسيقية في انسجامٍ واضح، قد استطاعت التوليف بين قلبيهما. حلقا، وغردا، وارتفعا، وتفردا في أفقهما الحالم، بهذا السمو نالت الحب، وبهذا العلو ظفر بكامل الود.
    ظلت فيروزة يقظة رغم استغراق زوجها في النوم، لم تستطع استدعاء سلطانه مثله، فعقلها لا يزال مشحونًا، بما اختبرته في الساعات الماضية، من تجربة حميمية وحسية، أعادت إليها كامل ثقتها في نفسها كأنثى، وحولتها في طياتها إلى امرأة مفعمة بالرغبة. أدارت رأسها في اتجاه تميم الذي كان نائمًا على جانبه وفي اتجاهها، كما لو أنه يريد أن تكون أول ما تبصره عيناه حين يستيقظ، أما ذراعه فكانت ملقاة عليها، لتضمن بقائها في أحضانه، وملتصقة به. تطلعت إليه عن كثبٍ بأريحية واضحة، ودون خجل، تأملت ملامحه عند هذا القرب المغري، كان وسيمًا للحد الذي يجعلها تظل محدقة فيه دون أدنى شعورٍ بالملل.
      جال بخاطرها مشهدًا ما يزال حيًّا في مخيلتها، حين تطلعت إليه قبل عقد قرانهما ببدلته السوداء، وملامحه المبتسمة؛ كان أنيقًا، منمقًا، مُخالفًا للشكل التقليدي الذي كان عليه في عرسه السابق، بدا معها أكثر حبًا، حيوية، وانتشاءً. ذقنه كانت نابتة، لم يحلقها بشكلٍ كامل، على عكس خصلات شعره التي قَصُرت كثيرًا. ما أدهشها حقًا هو امتلاكه لنفس الندوب، كأنما تشاركا خفيةً في أمر اعتبره دليلاً على شجاعة باسلة، ورمزًا يدعو للافتخار لا الخجل.
    لن تنكر أنها استلذت بإحساس قبلاته الدافئة على ندوبها، بدت وكأنها تمحو ما ظنت أنه لن ينمحق. تثاءبت في كسلٍ، وبالهدوء ذاته الذي بقيت عليه لبعض الوقت، أزاحت ذراعه عنها، ثم نهضت بتريثٍ من طرفها بالفراش، تريد الاغتسال. تحركت تجاه تسريحة المرآة، نظرت إلى الحُلي المتناثرة على السطح الزجاجي، رتبتها بشكلٍ منمق في علبة القطيفة، وذاكرتها تتنشط بموقف جدالهما معًا لإصراره على ارتداء شبكتها في الحفل، وقتئذ عارضته في منزلها بعنادٍ غريب:.
    -أنا قولتلك مش هلبسها، مالهاش لازمة.
    تحفز تميم في جلسته على الأريكة، وسألها بضيقٍ ظاهر في صوته:
    -ليه بس؟ ده احنا مصدقنا نظبط حكاية الكوافير والقاعة، هنيجي على دي كمان ونعقدها؟
    -ده كان اتفقنا من الأول إني هحتفظ بيها كأمانة، والمفروض أردها، وده وقته.
    سكت للحظاتٍ كأنما يبحث عن الكلمات المناسبة لإقناعها، رفع مرة ثانية نظره إليها، وقال بعد زفيرٍ سريع:.
    -ماشي، جه وقته، بس أنا عاوزك تردهالي في بيتنا، بعد الفرح.
    أراحت ظهرها للخلف، وعلقت بحاجبٍ مرفوع للأعلى، كما لو كانت تريد إغاظته:
    -خلاص هسيبها هناك قبلها.
    تحلى بالصبر، وتزين بفضائله وهو يصر عليها بلطفٍ يشوبه الهدوء:
    -وتزعلي أمك، وأمي؟
    تجهمت تعابيرها قليلاً، فواصل الضغط عليها بنفس الأسلوب المستعطف لقلبها:
    -بلاش دول، جدي الراجل الكبير اللي متعشم يشوفك لبساها؟
    مطت شفتيها في تبرمٍ، فسألها بتهذيبٍ، وهو يرمقها بنظرة عطوفة:
    -يرضيكي تكسري بخاطر الناس دي كلها؟
    لانت قسماتها العابسة، فابتسم في عذوبة وهو يرجوها:
    -ده جبر الخواطر على الله، خدي فينا ثواب، اتفقنا.
    تنهدت على مهل، وتكلمت أخيرًا:
    -حاضر.
    مع قبولها غير المشروط انفرجت أساريره، وضحكت عيناه وهو يمازحها:
    -شوفتي لما بتقولي حاضر وشك بينور إزاي.
    زوت ما بين حاجبيها مرددة في جدية:
    -ده بجد؟
    استمر في التغزل بها –وأيضًا بنظراته الدافئة- قائلاً:
    -طبعًا، وبتبقي وإنتي مكشرة أحلى من القمر.
    أفاقت من الذكرى على واقعٍ أكثر حلاوة، التفت ناظرة إلى تميم بعينين تعشقان النظر إليه، همهمت مع نفسها متسائلة، وهي لا تعرف أنها تبتسم:
    -معرفش إنت إزاي بتخليني اعمل كل اللي إنت عاوزه بالسهولة دي؟
    عادت لتنظر إلى سوار الجد سلطان، وضعته في مكانه بالعلبة إلى جوار البقية، ثم أغلقتها برفقٍ، وبدأت بالسير على أطراف أصابعها في اتجاه الحمام.
    لم يؤذن بعد لصلاة الفجر، وهي كانت ما تزال بداخل حمام بيتها الجديد، تتنعم بالماء الدافئ، أحست فيروزة بارتخاء عضلاتها، بإزاحة التوتر عن كامل جسدها المتعب من عناء يومها الطويل، انتهت على مهلٍ من الاستحمام، وراحت تلف جسدها بالمنشفة العريضة، تذكرت أنها نسيت إحضار ما ترتديه بالداخل، فهسهست في حرجٍ منزعج:
    -إيه الغباء ده؟ مش كنت أخد بالي!
    استخدمت المشط الموضوع في أحد أدراج مرآة الحمام، لتمشط شعرها المبتل وتعقده كعكة قبل أن تضع منشفة أخرى جافة عليه، انتفضت بارتعاشة مباغتة حين سمعت دقات خفيفة على الباب، تحشرج صوتها وهي تتردد:
    -أيوه.
    جاءها صوت تميم متسائلاً:
    -خلصتي يا حبيبتي.
    ردت بنفس الإيجاز الحرج، وهي تشعر بانبعاث الحرارة إلى وجنتيها:
    -أيوه، طالعة أهوو.
    وضعت يديها على خديها تتحسسهما، فشعرت باشتعالٍ متزايد عليهما، خاطبت نفسها في خجلٍ شديد:
    -هايقول عليا إيه لما يلاقي وشي زي الطماطم.
    تنفست بعمقٍ لتثبط من تصاعد خفقات قلبها، وراحت تكرر على نفسها:
    -هتكسفي من إيه، ده جوزك.
      استقامت في وقفتها، وانتصبت بكتفاها لتبدو كما دعاها مؤخرًا، طاووسه المختال، مع فارق أنها متلفحة بالمناشف القطنية البيضاء. تحركت نحو الباب لتفتحه، فأَلِفته منتظرًا عند عتبته، ما كان بها من اعتداد بالنفس تطاير مع نظراته الهائمة عليها، سرعان ما تهدل كتفاها، وانكمشت بشكلٍ أوحى بارتباكها الخجل، عندما رأته عاري الصدر أمامها، هي لم تعتد بعد على هيئته تلك، حاولت التحرك لتجاوزه؛ لكنه اعترض طريقها بمط ذراعه، وإسناده على إطار الباب، كأنما يفسد محاولتها للتملص منه. تراجعت خطوة خجولة للخلف، وتحاشت لهنيهة النظر إليه أو حتى الكلام معه، مستشعرة بداخلها أنه يضعها تحت مجهر عينيه، يُمتعهما بكل ما فيها من تفاصيل مشوقة وشهية.
    أطال في صمته، وزاد من تأمله العميق لها، مما دفعها للتصرف، واستعادة جأشها الهارب، تشجعت للنظر ناحيته، رغم ما يتقد بمواطن أنوثتها من جمرات اشتعلت جذوتها مع نظراته القوية. رمشت بعينيها تستأذنه بصوتٍ خرج من بين شفتيها مهتزًا:
    -ممكن أعدي.
    تقدم بتؤدة خطوة ناحيتها، ودون أن يرخي ذراعه
    -أنا ملحقتش أشبع منك.
    حاولت الثبات في موضعها، مقاومة تيارات المشاعر المتدفقة في دمائها، كأنما أرضها الخصبة تتعطش للارتواء من جديد بفيض أنهاره العذبة، خرجت نبرتها ترجوه:
    - تميم، لو سمحت.
    أخفض ذراعه، ودنا منها، محاولاً تلمس جلدها المبتل، وصوته قد صار خفيضًا مؤثرًا عليها:
    -هقولك بس كلمة.
    لم تخمد حركة جسدها مع لمساته التي تدفع بالمزيد من التيارات الشعورية في كامل خلاياها؛ كأنما تستحثها على الانتفاض من سباتها الواهي، أبعدت نظراتها الكاشفة لأمرها عن مرمى عينيه، بدت كما لو كانت تتوسله وهي تحاول المرور من جواره:
    -خليني أعدي.
    أعاق سيرها، وتحرك ناحيتها في نفس التوقيت لتجد نفسها قد التصقت بصدره العاري، ومرمية في أحضانه، شهقت بأنين خفيض، ورفعت رأسها لتنظر إليه، وكفاها يستندان على عضلاته، وجدته يطالعها بحبٍ عميق قبل أن يهمس قائلاً بنبرة راجية رغم كونها آمرة:
    -هتسمعيني الأول.
    أحست بجفافٍ غريب يجتاح حلقها، بلعت ريقًا غير موجود بجوفها، ورددت في طاعةٍ غريبة وهي تسحب يديها:
    -طيب.
    مرر يده أعلى شعره القصير، واستطرد موضحًا ببسمة متأنقة في سحرها:
    -شوفي، أنا كنت مستعجل شويتين، وماصبرتش لحد ما أصلي معاكي ركعتين نبدأ بيهم حياتنا.
    نظرت إليه في غرابةٍ، فأكمل بنفس الوجه المبتسم:
    -فمحتاج منك كده مساعدة بسيطة عشان أغتسل واتوضى.
    حلت الحيرة على ملامحها وهي تسأله:
    -مساعدة إيه دي؟
    أشار بيده نحو الفراغ مجاوبًا إياها:
    -توريني مكان الحاجة..
    تسمرت في مكانها، والتفتت برأسها لتشير نحو الأدراج الموجودة في زاوية الحمام وهي تخبره بعفوية:
    -ما إنت عندك هنا الفوط، وهنا ال آ...
    حين استدارت بوجهها لتنظر إليه، وتتم جملتها للنهاية، وجدته ينحني عليها برأسه، ليطبع قبلة عميقة على شفتيها، توقفت لحظيًا عن التنفس، ولفها دوار سريع، نقلها إلى مواضع السمو في علاقتها معه، احتضن صفحة وجهها براحتيه، لتشعر بمذاق الشهد يتسرب إليها، تراجع تميم بعد لحظات معدودات عن شفتيها –ودون أن يحرر وجهها المحاصر بقبضتيه- ليهمس بأنفاسٍ مشبعة بلهيب العشق:
    -بحبك.
    قبيل شروق الشمس، بوجهٍ مغبر، وقسماتٍ غلفها السواد، عاد إلى منزله مجرجرًا قدميه، ومصحوبًا بدعواتٍ مستهلكة على أذنيه، تدعو له بالعوض، والصبر على فيجعته العظيمة. فتح فضل الباب، ووطأ بيته يلقي باللعنات، وهو يتحسر على ما أنفق من مالٍ ذهب سداءً في لمح البصر. ألقى شاله المحاوط بعنقه أرضًا، وارتمى على المصطبة يضرب كفًا بالآخر وهو يبرطم بعباراتٍ مبهمة. اقتربت منه سعاد ترمقه بتلك النظرة الشامتة قبل أن تخاطبه بتقاسيمٍ منقلبة:.
    -شوفت ربنا عملك فيك إيه؟
    هدر بها في عصبيةٍ بما اختلج صدره من غضبٍ مكبوت، وصورة احتراق الحقل عن بكرة أبيه تصدح في فضاء عقله:
    -كفاية تعتيت في جتتي يامه، أنا مش ناقص حرقة دم بزيادة، وخليني أشوف النصيبة اللي حلت على نافوخي.
    احتقن صوت أكثر وهو يضيف:
    -ده خراب مستعجل!
    بدت والدته غير متأثرة بحالة الهياج المستبدة به، لوحت بكفيها أمام وجهه تنذره بقساوةٍ:
    -إياكش تتعظ، وترجع الحقوق لأصحابها، بدل ما إنت واكلها.
    هبَّ واقفًا ليصرخ في وجهها بعنفٍ:
    -في إيه يامه؟ ارحميني شوية!
    ارتدت خطوة للخلف على إثر صوته القوي، لتنأى بنفسها عن بطشه يده الوشيك، وواصلت تقريعه بغير اكتراثٍ:
    -دي لسه البداية، كفاية أبوك مات بحسرته، وقلبي غضبان عليك.
    هاجت أعصابه، وانفلت زمامها ليصيح مهددًا في غليلٍ ما زال يشتعل فيه:
    -بقولك إيه، يا تسكتي، يا تروحي تشوفي وراكي إيه.
    شهقت سعاد في استنكارٍ عظيم، قبل أن تلطم على صدرها وهي تنهره:.
    -هتمد إيدك عليا؟ ما هو ده اللي ناقص يا ابن بطني.
    كور فضل قبضته، وضرب بعنفٍ على الحائط، ليبتعد عن محيطها هادرًا في اهتياجٍ مخيف:
    -يووه، كفاية بقى، ارحميني، وسبيني في البلوة اللي أنا فيها.
    نظرت إليه بغير أسفٍ، ودمدمت في ملامحٍ مقهورةٍ ممتقعة:
    -أنا ماشية من وشك.
    شيعها بنظراته النارية إلى أن غابت عن محط أنظاره، فأخذ يدور في موضعه جيئةً وذهابًا، واضعًا يده أعلى رأسه الذي أوشك على الانفجار، ضغط على الأتون المشتعل بداخله، وراح يسأل نفسه في تحيرٍ بائس:
    -طب العمل إيه؟ ده كله راح في غمضة عين!
    كز على أسنانه في غضبٍ مغتاظ وهو يتابع بوعيدٍ:
    -أه لو أعرف واد المحروق اللي عمل في أرضي كده!
    اشتاط على الأخير، وهو ما زال يتوعده بعقابٍ شديد في شراسته:.
    -ده أنا هكله بسناني، ومش هيكفيني عمره كله قصاد الأرض اللي ولعت.
    أطاح في غمرة عصبيته ببعض منقولات المنزل، غير عابئ بإفساد ترتيب مظهره العام، ووسط تلك الانفعالات الثائرة، برق عقله بفكرةٍ شيطانية، سرعان ما سطعت تفاصيلها كالداهية، لتستحثه على تنفيذها في التو، حط غضبه الهائج إلى حدٍ ما، وهدأ نسبيًا، توحشت نظراته، وقد تكلم مع نفسه مبررًا ما سيقدم على فعله:.
    -مافيش إلا كده، ما هو كله من فلوس أبويا، وفلوسه بقت حقي دلوقتي.
    بالكاد كانت تستعد للاستلقاء قليلاً على سريرها بعد سهرٍ طويلة لم تتذوق فيها طعم النوم، حين اقتحم غرفتها باندفاعٍ غير مسبوق، احتدت نظرات سعاد نحو ابنها، واعتدلت في رقدتها تعنفه بغيظٍ:
    -جاي ورايا ليه؟
    تقدم نحو فراشها بكل عنفوانه، وسألها في نبرة خشنة للغاية:
    -فين يامه الشكمجية بتاعة الدهب؟
    اتسعت عيناها في توجسٍ ذاهل، وسألته بقلبٍ يدق في جزعٍ:
    -عاوزها ليه؟
    جاوبها في نبرة تُقرر لا تُخير:.
    -محتاج أبيع الدهب اللي فيها، عشان أفك بيه زنقتي، وأعوض الخسارة اللي قسمت وسطي.
    نهضت من طرف سريرها تحتج عليه بحنقٍ:
    -ده مالي وحالي، هتاخده غصب عني؟
    نظر لها ببرودٍ قبل أن يخبرها بصفاقةٍ:
    -مضطر، والمضطر يركب الصعب.
    لم ينتظر تعليقها، واتجه نحو دولاب ثيابها قائلاً:
    -إنتي شايلاه أكيد هنا.
    حاولت اعتراض طريقه، وإيقافه قبل أن يصل إليه، فتعلقت بذراعه، وبذلت جهدها لمنعه من المساس بأشيائها؛ لكن قوة أطماعه جعلته يزيحها بعيدًا عنه، ويفتح الضلفة الخاصة بها، ليفتش بعبثيةٍ بين الرفوف، إلى أن وجد صندوق مجوهراتها العتيق، انتشله من موضعه بالأسفل، ففزع قلب سعاد، صرخت به بتوسلٍ:
    -ابعد عن حاجتي يا فضل، ده أنا عيناه لإخواتك بعد ما أموت.
    حاوطه بذراعه في قوةٍ، لئلا تختطفه منه، واستدار يصرخ في وجهه بغيظٍ شديد:
    -كل حاجة إخواتي، إيه؟ ما بكفاية بقى!
    فشلت والدته في استعادة ما يخصها، ونظرت إليه بنظرة العاجز المغلوب على أمره، لتهتف بعدها في استياءٍ عارم:
    -إنت السواد اللي جواك عامي قلبك، ومخليك جاحد على أقرب الناس ليك.
    لم يعبأ بها، وأولاها ظهره لينظر إلى وهج الذهب المغري الموجود بداخل الصندوق بعد فتحه، بعينين تتراقص فيهما شياطين الأنس، استغلت سعاد لحظة التهائه عنها، لتدور حوله، وتمسكت بقبضتين من حديد بصندوقها؛ لكنه –للوقاحة- زاد بأسًا على بأس، ودفعها بعنفٍ حتى كاد يسقطها على ظهرها، وهو يهدر في صوتٍ جهوري غاضب:
    -حاسبي إيدك، ده حقي.
    تماسكت قبل أن تفقد اتزانها، وتحدت طمعه بإصرارها العنيد:
    -سيب دهبي.
    في التو أغلق الصندوق، ولفه أسفل ذراعه قائلاً بتزمتٍ:
    -لأ، هاخده...
    لمح ما يتدلى على صدرها من سلسلة عريضة، كانت مختبئة خلف حجابها الطويل، دون تفكيرٍ اختطفها عنوة، وهو يخبرها بتوحشٍ:
    -وهاتي دي كمان.
    شهقت لتجرؤه عليها، ناهيك عن سرقته الوقحة لما تملك، وهتفت في حرقةٍ:
    -حرام عليك، ده إنت ناقص ترميني في الشارع عشان طمعك وجشعك.
    ضم السلسلة إلى ما معه قائلاً بفجاجةٍ:.
    -كفاية الإسطوانات الفارغة دي، مسيري هرجعهوملك لما تُفرج معايا.
    تهكمت على كلامه المستفز:
    -هتُفرج إزاي معاك وإنت عليك غضب ربنا؟!
    نظر لها شزرًا قبل أن يعلق في أسلوبٍ فج مثير للاشمئزاز:
    -كل الغارة دي عشان كام حتة دهب خدتهم؟ قولتلك هردهم، في إيه؟ ده بدل ما تدعيلي؟!
    اِحمر وجهها على آخره، وامتلأت عيناها بالدموع المقهورة وهي تتطلع إليه، جلست في وهنٍ على طرف فراشها تصرخ فيه بألمٍ وانكسار:.
    -منك لله يا فضل، ربنا يسلط عليك عباده.
    سدد لها نظرة قاسية ساخطة، ليرد بعدها في قنوطٍ:
    -يا ساتر، يامه بقولك الضرورات تبيح المحظورات، تقومي تدعي عليا؟
    تحرك قبالة باب الغرفة متابعًا كلامه بجحودٍ كبير:
    -الظاهر مخك تعب من بعد موت أبويا، ارتاحي أحسن.
    سمعت ترهاته الفجة، ودمدمت في حرقةٍ أشد، وهي ترفع كفيها إلى السماء:
    -حسبي الله ونعم الوكيل فيك، ربنا يخلص منك.
    رمت شعرها بلا عنايةٍ خلف ظهرها -شبه العاري- بعد أن قامت بتجفيف خصلاته؛ لكن بقيت آثار حمَّامها ظاهرة على بشرتها المنتعشة، ركزت فيروزة كل أنظارها على انعكاس وجه زوجها في خلفية مرآتها، كان تميم قد ارتدى تيشرتًا بدلاً من إبقاء نصفه العلوي مجردًا من الثياب، أراحها تصرفه المهتم، إلى أن تعتاد على وجوده الذكوري في محيطها، وجدته يبادله نفس النظرات المفتونة، كأنه يراها للمرة الأولى، لذا لم تخجل من تغطية ندوبها، وتركت روبها النبيذي -المماثل لقميصها الحريري ذي الحملات الرفيعة الذي ترتديه- موضوعًا على طرف الفراش. ابتسمت في دلالٍ من مقعدها، وسألته وهي تضع مسحة من أحمر الشفاه على حبتي الكرز:.
    -بتبصلي كده ليه؟
    تنمق في رده البليغ عليها:
    -بملي عيني من القمر اللي معايا.
    توردت أكثر، ودبت في بشرتها الكثير من مظاهر الحيوية والحماس، حاولت التغاضي عما يعتريها الآن من مشاعر مرهفة تعشق هذا النوع من التودد اللطيف، وسألته وهي تمعن النظر فيما تحتويه قبضته:
    -معاك إيه؟
    تقدم ناحيتها قائلاً وهو يظهر ما تخفيه راحته إليها:
    -تفاح.
    حاوطها من الخلف، فتقلص جسدها مع ضمته التي جذبتها، احتوتها، وأذابتها، بضعة لحظاتٍ وكانت حرارة جسده تغمرها، فبث إحساس الدفء فيها، سرعان ما تحولت رجفتها إلى وخزات لذيذة تستثيرها حين همس بالقرب من شحمة أذنها:
    -جايبه للتفاح.
    اقشعرت بتلذذ مع حُر أنفاسه، وبدأت في الذوبان أكثر بين حصار ذراعيه، خاصة وهو يدفن رأسه في منحنى عنقها ليمطرها بالمزيد من القبلات الشغوفة، التواقة دومًا إليها. سحبها لتنهض وهي بين أحضانه، وأدارها كليًا لتنظر إلى عينيه وهما تصرحان بحبه، زادت من دلالها عليه، ورفعت ذراعيها لتطوق عنقه، ثم ابتسمت قائلة في غنجٍ:
    -ده إنت مقطعه بنفسك.
    أبقى تميم ذراعًا حول خصرها، واستخدم يده الأخرى في وضع قطعة من ثمرة التفاح بين شفتيها قائلاً:
    -وهأكلك كمان.
    قطمتها بتؤدةٍ، وقالت وهي تلوكها في مرحٍ:
    -إيه الدلع ده كله؟
    انفرجت شفتاها عن شهقة خافتة، وقد شدد من جذبها إليه لتشعر بسطوة قبضته القوية على ظهرها، لامس ثغره زاوية فمها وهو يخبرها بصوتٍ بات أقرب للهمس:
    -ولسه في كتير.
    تأوهت معترفة له وهي على وشك الغرق في دوامات غرامه العاصف:.
    -أنا معرفش إنت خلتني أحبك إزاي.
    جاءه جوابه هامسًا، مليئًا بالإغواء:
    -عشان أنا أستاهل اتحب...
    غابت في لحظة من التيه وهو يمنحها كل الحب الذي تستحقه، سألها بخفوتٍ وهي تذوب بين ذراعيه من فرط الشوق والتحرُّق للانتشاء:
    -صح؟
    بالكاد سمع نبرتها من بين تنهيداتها وهي تجيبه:
    -أيوه، إنت مافيش زيك.
    غاصا معًا للحظاتٍ حميمية امتدت لدقائق معدودة فيما يشبه نوبة مفاجئة متخمة بطوفانٍ من المشاعر المحمومة، فأشعلت التوق، وأوجدت الوَجْد، وروت الظمأ. استكانت على الفراش، مستلقية على ظهرها، وذراعه من أسفلها تقربها إليه، مسدت بيدها على صدره في رفقٍ، واستطردت قائلة في ترددٍ:
    -كان عندي ليك سؤال.
    نظر إليها من موضعه متسائلاً باهتمامٍ:
    -إيه هو؟
    همَّت بالاعتدال من تمددخا؛ لكنه أعادها إلى استلقائها قائلاً بعبثية:.
    -تعالي في حضني شوية.
    منحته تلك النظرة الشقية وهي تسأله:
    -ماشبعتش؟
    أجاب ويده تجوب على منحنياتها في حنوٍ:
    -لأ.
    حركت كفها لتضعه على يده، فتوقف حركته المدغدغة لجسدها، ثم تنهدت متسائلة بعد هنيهة من ترتيب الأفكار التي تدور في رأسها:
    -اشمعنى صممت نعيش هنا؟ في البيت ده عن غيره؟ وخصوصًا إنه في نفس المكان اللي اتجوزت فيه قبل كده.
    أصر على بقاء عينيه عليها وهو يخاطبها:.
    -هتصدقيني لو قولتلك إني حاسس إني لأول مرة بتجوز.
    نطقت دون تفكيرٍ، وعيناها تؤكدان ذلك أيضًا:
    -مصدقاك.
    قرب شفتيه من جبينها، وقبله مليًا قبل أن يقول:
    -وده عندي كفاية.
    لحظات من الصمت الهادئ سادت بينهما إلى أن قطعته مكررة عليه سؤالها:
    -بس مجاوبتنيش ليه هنا بالذات؟
    قال بلمحة شبه حزينة رغم ابتسامته:
    -عشان البيت ده ليه مكانة عزيزة وغالية عندي أوي.
    تحمست للإصغاء إلى باقي حديثه، وانعكس ذلك على تعبيرات وجهها، ونظراتها نحوه. تنفس تميم بعمقٍ، ثم تابع:
    -ده بيت جدي سلطان، اللي اتجوز فيه ستي، وعاش معاها لحد ما ماتت، مقدرش بعدها يقعد فيه...
    خنق غصة طافت في حلقه، وأضاف ببريق لامع في عينه جراء دموعه المتسللة:
    -عز عليه يدخل مكان هي مش فيه.
    بدت متأثرة بما قال، والتمعت عيناها كذلك بعبراتٍ خفيفة، طردتها بعدة رفرفات متواترة من جفنيها، لتتساءل في جدية:.
    -للدرجادي كان بيحبها؟
    أكد عليها مبتسمًا:
    -أيوه، زي ما أنا بحبك بالظبط، ويمكن أكتر مني، ما أنا مش عارف بصراحة، لأن معشتش الحب في زمانهم.
    ما كان منها إلا أن قالت في لطفٍ:
    -الله يرحمها، ويديله الصحة.
    تنهد معقبًا وهو يحملق في سقفية الغرفة:
    -يا رب.
    استغرقه الأمر لحظةً ليستأنف الكلام بصوته الهادئ:.
    -زمان بقى كانت الناس بتأجر بيوت، بإيجار رمزي، محدش بيشتري، لأن الحال على الأد، وصاحب الملك لما مات ولاده حبوا يبيعوا العمارة باللي فيها، أنا اشتريت البيت ده، واحتفظت بيه، ولما ربنا كرمني خدت الشقة التانية، على أساس أفتحهم على بعض، بس حصل ظروف حبسي، وخرجت من السجن على جوازي ب خلود، وملحقتش أعمل حاجة من اللي خططتلها في خيالي.
    المجيء على ذكر سيرة ابنة خالته جعلها تشعر بالغيرة، وبالانزعاج، رغم أنها توفت إلا أن ذلك الإحساس بقي متحفزًا في داخلها. انتبهت إليه وهو يواصل حديثه إليها:
    -وسبحان الله زي ما يكون ربنا مقدر إني أعيش في البيت ده معاكي.
    على ما يبدو تركز تفكيرها حول خلود، وطبيعة علاقته بها رغم كونها معقدة في بعض التفاصيل التي ليست على علمٍ كامل بها، تصلبت قليلاً وهي تستجمع نفسها لتسأله:
    -حبيت مراتك الأولى؟
    شعر بتصلبها وهو يحاوطها بذراعه، استل يده من أسفل قبضتها الموضوعة فوقه، ليعاود الطوف على جانب جسدها بحنوٍ رقيق، قبل أن يبادر بالقول:
    -الله يرحمها، هي كانت بتحبني، وأنا بحكم القرابة والعِشرة احترمتها، واتمنيت لما انفصلنا تراعي اللي كان بينا...
    لم يرغب في إضافة المزيد، فاستدار مستلقيًا على جانبه ليواجه فيروزة، حملق فيها بعمقٍ وهو يسألها في فضولٍ طفيف:
    -هي عند ربنا دلوقتي، بس إيه اللي فكرك بيها؟
    نظرت إليه في قليلٍ من الضيق، وقالت بتهربٍ:
    -عادي يعني.
    انتقلت ذراعه الأخرى لجانبها، فشكَّل طوقًا حولها، ثم رفع رأسه قليلاً مخاطبًا إياها:
    - فيروزة عاوزك تتأكدي إنك اللي في القلب وبس.
    ردت عليه في دلالٍ تشوبه لمحة من العنجهية:
    -ما هو واضح، ده إنت طلع عينك عشان تتجوزني.
    قابل ذلك بضحكة مرحة وهو يؤكد عليها:
    -مقدرش أنكر، وإنتي تستاهلي كل التعب.
    أعقب ذلك جذبة قوية لخصرها، جعلتها ملتصقة بكفيها في صدره، تلوت ببدنها محاولة الخلاص من قيده المُحكم وهي ترجوه:
    - تميم، لو سمحت.
    ضحك في استمتاعٍ وهو يرى مقاومتها الواهية بالمقارنة مع قوته، جاهدت لدفعه من صدره، وخلق مسافة بينهما وهي تتذمر من فشلها في إبعاده:
    -إنت هتعمل زي ما كنا بنتصور، مصدقت تلزق فيا.
    قال بتفاخرٍ، وهذه الابتسامة المغترة تنير ثغره:
    -كله بالحلال يا أبلة، قبل كده مكونتش أقدر.
    تصنعت الجدية، وزادت من مقاومتها له مرددة:
    -طب حاسب شوية يا معلم.
    كأنها استثارت غيظه بجملته تلك، فعَمِد إلى معاقبتها بأسلوبه الخاص جدًا، منحها نظرة غامضة أربكتها مرددًا:
    -معلم، وأحاسب..
    تأوهت بغتةً عندما سحبها أسفله، ليطبق عليها بكله وهو يكلمها بنبرة عبثية:
    -لأ تعاليلي شوية، ده أنا دوخت السبع دوخات عشان أوصل للحظة دي.
    عرفت فيروزة هذه النظرة العابثة المطلة من عينيه، تلك التي تلتهمها، وتُعيد تشكيلها بطريقة لا تعرف كيف تصبح فيها هائمة بفَلَكه الفسيح، حاولت الفرار من تهديده المغري، فقالت بلجلجةٍ ترجوه:
    -استنى بس.
    رمقها من عليائه قائلاً بنبرة لاهية أوحت بالكثير والكثير:
    -ده أنا ورايا توريد لازم أراجعه صنف صنف معاكي...
    كركرت ضاحكة في ميوعة، واجتهدت لتنسل من تحته، لكنه بدد مقاومتها الدؤوبة بقبلاته الشغوفة، كان قادرًا على استخراج كافة مشاعرها المكبوتة، بنظرة عميقة من عينيه، بكلمة رقيقة من بين شفتيه، بمداعبة خبيرة من أصابع يديه، أتاها أول علامات ذوبانها الكلي مع ترديده المبطن بسحر البسيط من عباراته:
    -وهبدأ بالتفاح الأحمر...!
  13. omamer
    رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الستون
    خيل إليه أن الجميع اتفقوا فيما بينهم، وتضافرت جهودهم -بشكل يدعو للعجب- من أجل تعطيله، ومنعه من الصعود مع عروسه لمنزل الزوجية، فعلى ما يبدو كل من تذكر مسألة ما راح يخبره بها، ليملأ رأسه ويشحنه بغير المستحسن من الأمور في تلك الليلة الخاصة. تذمر تميم في استياءٍ منزعج، وهو يلوح بذراعه في الهواء:
    -اللي عنده حاجة يا جدعان يأجلها، أنا عريس، والنهاردة دخلتي، والله ما يصح اللي بتعملوه معايا.
    لم يكبت منذر ضحكاته العالية، وقال في تسليةٍ:
    -يا عم استمتع بآخر لحظات حريتك.
    رد عليه في غيظٍ:
    -أنا عاوز أتحبس.
    حذره دياب بمرحٍ واضعًا يده على كتفه:
    -وترجع بعد كده تزعل، وتقول يا ريتني، ده حتى دخول الحمام مش زي خروجه.
    علق عليه في تذمرٍ وهو يزيح يده عنه:
    -أدخله، وبعد كده اشتكي.
    غمز له مصححًا بمكرٍ:
    -ما إنت دخلته قبل كده؟ هتطمع؟
    رمقه بنظرة حادة قبل أن ينهره:
    -أهو الأر ده اللي جايبني ورا.
      ارتفعت أصوات الضحكات الرجولية الصاخبة، واستمروا على نفس المنوال المشاكس له، فقط من أجل اللهو معه، إلى أن أزف الوقت، وحانت لحظة صعوده، عندئذ شعر بالارتياح، وبدأ يشحذ قواه من أجل التمتع بساعاتٍ لا تعد ولا تحصى من نعيم الجنة في أحضانها.
    كان من الأسلم لها، أن تبدل ثيابها، بمساعدة والدتها، تجنبًا لما يمكن أن يحدث من نفورٍ متوقع إن وقعت عيناه على آثار ندوبها المحفورة على جانب كتفها، فتفسد ليلتها قبل أن تبدأ، ويحدث معها مثلما حدث سابقًا، الجفاء الكامل المصحوب بازدراء مهين. أرادت التمهيد له عن ذلك مسبقًا، قبيل تعرية جسدها، فلا تصبح –في اعتقادها- مثارًا للاشمئزاز. ضمت فيروزة طرفي روبها الحريري الأبيض معًا، وأحكمت ربط الوثاق حول خصرها، لئلا ينحل، ويُظهر القميص الموجود أسفل منه، والكاشف لمفاتنها كأنثى شهية.
    توسلت لوالدتها بعينٍ راجية:
    -خليكي يا ماما معايا شوية.
    رفضت آمنة بمنطقيةٍ، وهي تمسح على وجنة ابنتها المتوترة:
    -لأ مايصحش، جوزك يقول عني إيه؟ عزول بينكم؟
    أطبقت على شفتيها تكبت ترددها، فواصلت والدتها كلامها المعاتب في جديةٍ:
    -وبعدين خايفة كده ليه؟ إنتي مش اتجوزتي قبل كده؟
    شحبت بشرتها من المجيء على هذه النقطة الحرجة، وقالت في لعثمةٍ ظاهرة:
    -أيوه، بس آ...
    قاطعتها آمنة قبل أن تمنحها الفرصة للتبرير، لتشدد عليها:
    -خلاص جمدي قلبك كده، وإياكي تجيبي سيرة المرحوم، مافيش راجل بيحب مراته تتكلم عن واحد تاني قبله.
    بالجمود ذاته المسيطر الآن على تعابيرها سكتت فيروزة، ولم تفصح عن سرها، وشردت في أفكارها المتخبطة، خشيت آمنة من محاولة ابنتها إفساد ليلتها مع زوجها بالخوض في ذكريات الماضي، فكررت عليها تحذيرها:
    -افردي وشك، واضحكي، بلاش عكننة.
    على مضضٍ أخبرتها:
    -حاضر.
    تحركت آمنة تجاه الأريكة بعد أن حملت ثوب العرس، ثم فردته عليها بشكلٍ جمالي، ولملمت بعض الأشياء المبعثرة هنا وهناك، لتحافظ على نظام الغرفة، أبقت فيروزة نظراتها القلقة عليها، وسألتها في صوتٍ مهتم:
    -طب إنتي هتعملي إيه دلوقتي؟ هترجعي البيت؟
    لم تلتفت ناحيتها حينما جاوبتها:
    -هطلع أبات عند أختك، والصبح إن شاءالله هشأر عليكي، قبل ما أروح البيت لخالك.
    اندهشت لبقائه منفردًا، وسألتها:
    -هو مش هيبات معاكو؟
    أجابت عليها بعد زفيرٍ متعب:
    -مرضاش خالص، بس سايب كوكي معايا.
    ردت وهي تسير نحو التسريحة لتمشط ما تمرد من خصلاتها:
    -تمام.
    تأكدت آمنة من إتمام كافة مهامها، وألقت نظرة شاملة على محتويات الغرفة، قبل أن تسير ناحية الباب. توقفت عند أعتابه، واستدارت توصي ابنتها مرة ثانية:
    -خدي بالك من نفسك، وأوعي تزعلي جوزك، راضيه دايمًا عشان ربنا يباركلك ويراضيكي فيه.
    شدت فيروزة من ياقتي روبها، لتظهر فقط مساحة صغيرة، تكاد تكون محدودة من عنقها، وقالت في إيجازٍ، بلا ابتسام:
    -إن شاءالله.
    لوحت لها والدتها بيدها تودعها، ودعت لها بعاطفة أمومية، قبل أن تغادر البيت، :
    -ربنا يسعدك يا حبيبتي، ويرزقك بالخلف الصالح.
    ذهبت عنها، وبقيت بمفردها حبيسة مخاوفها، حاوطت نفسها بذراعيها، لتبث قدرًا من الدفء إلى جسدها، بعد أن استشعرت برودة غريبة تضرب أطرافها، تنهدت داعية الله في سرها:.
    -يا رب عديها على خير.
    تلكأ، وتذمر، وتحامل على نفسه، إلى أن ظهرت أخيرًا أمام عينيه، وقررت الانصراف. تصنع تميم الابتسام وهو يبصر حماته تدنو منه حاملة في يدها حقيبتها، قال بنوعٍ من المجاملة الزائفة وهو يقف بجوار إطار باب الشقة المفتوح؛ لكنه في قرارة نفسه يريد طردها:
    -ما لسه بدري يا حماتي؟
    ضحكت قائلة بلطفٍ:
    -بدري من عمرك يا ضنايا...
    توقفت قبالته، وربتت على كتفه عدة مرات داعية له:
    -تتهنى مع عروستك يا رب.
    تنحى للجانب قائلاً بابتسامةٍ عريضة:
    -الله يكرمك.
    خرجت من البيت، ووقفت عند مطلع الدرج تودعه من جديد:
    -تصبحوا على خير.
    قال في تعجلٍ وهو يحرك الباب برفقٍ استعدادًا لغلقه:
    -وإنتي من أهله، عن إذنك.
    لم ينتظر ردها، بل عاجل في دفعه لينغلق كليًا، حينئذ فرك كفيه معًا، وردد في نشوةً أخذت تتصاعد في بدنه:
    -أخيرًا التتار رحل، يا ساتر، ده أنا قولت هاقضيها كلام لحد ما النهار يطلع.
      سحب نفسًا عميقًا يثبط به المشاعر التي هاجت، واهتاجت، وأَنَّت من كثرة المماطلة. تنحنح تميم بصوتٍ شبه مرتفع مُخبرًا بقدومه، بعد أن عدا في اتجاه الردهة، ليصل إلى من تعذب مرارًا وتكرارًا ليبلغ معها نهاية سعيه الدؤوب. وقف عند باب حجرة النوم المقفول، طرق عليه برفقٍ، وتساءل في تحفزٍ متحمس:
    -إيه الأخبار؟
    أتاه صوتها مسموعًا من الداخل:
    -ثواني، وطالعة.
    هتف في تشوقٍ وهو يتراجع خطوتين للخلف:
    -ماشي يا قمر.
    انتزع سترته، وحل رباط عنقه، ثم فك زرار ياقة قميصه، وراح يتطلع إلى الباب بترقبٍ شديد، ولسانه يتمتم في خفوتٍ:
    -ليلتنا فل إن شاءالله.
    أولى ظهره للباب متراجعًا لخطوتين، حينما سمع المقبض يُدار إيذانًا بفتحه، أراد الترفق وهو يتودد إليها، لعلمه بمدى الارتباك الذي يسري في أوصال العروس، في هذه الليلة تحديدًا، خاصة عندما تنفرد مع زوجها ويختلي بها، وبالرغم من سابق خبرته في الزواج إلا أنه استشعر بقوة أنه يخوض التجربة لأول مرة، لأنها تعتمد كليًا على جوارحه، مشاعره، وما ضمره الفؤاد، لا على ما فرضه العقل والمنطق.
    قصف قلبه مع صوت صرير الباب وهو يُفتح على مهلٍ، وتضاعف القصف عندما سمع صوتها الناعم يخاطبه:
    -الأوضة فاضية لو حابب تغير هدومك.
    ببطءٍ يتخلله كل الشوق، التلهف، الرغبة، والاشتياق، استدار تميم ناحيتها ليتطلع إليها بنظراتٍ شمولية، تجولت على مهلٍ مستمتع، بدءًا من تفاصيل وجهها، وانتهاءً بمسح قوامها. كانت جميلة بثوب عرسها، وصارت أجمل وأشهى بالحرير الناصع الملامس لجسدها. خجلت من نظراته التي تطوف عليها مرارًا وتكرارًا، كأنما يمنح نفسه كل الفرصة للنظر إليها بلا مقاطعة، ولا ممانعة. توردت بشرتها بحمرة دافئة تأثرًا بنظراته الشغوفة، وأخفضت رأسها في حياءٍ، استجمعت فيروزة جأشها لتتحرك، وسارت أمام ناظريه لتتجاوزه وهي تقول في لعثمة مرتبكة، كانت لذيذة على مسامعه:.
    -خد راحتك جوا.
    من فوره تحرك تميم ليعترض طريقها، فانتقلت للجانب المعاكس لتتجاوزه، وهي تشعر بتسارع نبضاته، وجدته يستوقفها باعتراضها مرة أخرى، تشجعت لتنظر إليه بنظرة متسائلة، فجاوب على سؤالها غير المنطوق يسألها بنبرة موحية:
    -رايحة فين وسَيباني؟
    تهربت من تلميحه المتواري، ورمشت بعينيها قائلة:
    -عشان مضايقكش.
    تعقدت ملامحه متسائلاً في إنكارٍ:
    -تضايقيني؟
    همَّت بتجاوزه، والهروب من محيطه؛ لكنه منعها من المرور، وامتدت قبضتاه لتمسكا بكفيها الباردين، ارتجفت مع لمسته الدافئة، ورفعت عينيها إليه، لتجده يرمقها بكل ما فيهما من حنانٍ، عمق من نظراته إليها، واستطرد يكلمها بأنفاسٍ تضطرم عشقًا:
    -إنتي مش عارفة أنا حلمت باللحظة دي كام مرة، وفضلت أستناها من إمتى...
    لمعت حدقتاها بدمعاتٍ خفيفة متسللة، تأثرًا بحديثه، خفق قلبها أكثر مع اعترافه الصادق:.
    -ده أنا مابطلتش دعاء، ولا حتى فقدت الأمل إن ربنا هيجمعنا في يوم.
    أسبلت عينيها ناحيته، وسألته في غير شكٍ:
    -للدرجادي؟
    قال بيقينٍ كامل، ونظراته تزداد عمقًا:
    -أيوه، ما أنا معرفتش أحب غيرك.
    لدهشتها، شعرت بنفسها تبكي فرحةً خلال سماعها لوصلة اعترافاته، تلك التي احتلت شغاف القلب، وتربعت في ثناياه، أمال رأسه ناحية شفتيها المرتعشتين هامسًا في هيامٍ واله:
    -إنتي أول وآخر حب في حياتي.
    اضطربت أنفاسها وهي تردد بصدرٍ شبه ناهج:
    -وأنا..
    اقترب بشفتيه من خاصتها متسائلاً بأنفاسٍ أحرقها لهيب الحب:
    -إنتي إيه؟
    خفضت من صوتها وهي تفتح قلبها لأول مرة معترفة له:
    -وأنا محبتش غيرك.
    تلامست الشفاه في نعومةٍ مغرية، فسرت عدة رعدات قاصفة، عاصفة، مهيجة للمشاعر، لثمهما تميم، ومنحها قبلة صغيرة، رقيقة، ممهدة لما هو آتٍ، لتزداد رويدًا رويدًا في عمقها، مع استمراره في تذوق رحيق شفتيها الشهيتين، أحست فيروزة بيديه تجذباها في تمهلٍ إلى أحضانه، استسلمت وهي تحت تأثير قبلاته الطاغية، مستشعرة باقتحام قوافلٍ من البهجة إلى أعماق أعماقها، تستحث فيها كل ما هو كامن للانتفاض، والاشتعال.
    حرر تميم كفيها؛ لكنه حاوط خصرها بذراعيه، شعرت به يضمها، ويلصقها بصدره، فأرخت راحتيها على كتفيه، دون أن تتحرر الشفاه، انسجما، وتناغما، وتناسا ما سواهما، بدا الانسحاب في تلك اللحظة أمرًا مستحيلاً، تلاحمهما المفعم بالرغبة والشوق جعلهما يتمتعان بكل ثانية، كأنها لحظة استثنائية لن تتكرر!
    تراجع تميم لمسافة لا تقدر بعقلة إصبع ليلتقط أنفاسه، ودقات قلبه تثور كالبركان الهائج من شدتها، همس مناديًا باسمها، كما لو كان يعزف مقطوعة فريدة:
    - فيروزة!
    عادت لتتنفس بعد أن توقفت للحظات عن الشعور بأي شيء سوى تيار المشاعر الجارفة الذي اجتاحها، وأباد ما بها من دفاعاتٍ ظنت أنها ستصمد للأخير. ردت النداء بآخر تائه، مغري، يدعو للمزيد في طياته:
    - تميم!
    تكررت القبلة، ولم ينتقص الشغف، بل تنوع، وتعدد، وأصبح له صنوفًا في التعبير عنه، بالكاد جارته في عِظم عشقه، وراحت ترجع رأسها للخلف وصدرها يلهث من فرط الحماس، أخذها تميم في حضنه، وأسند رأسها على كتفه، ليدور بيده صعودًا وهبوطًا على ظهرها في رفقٍ، تنهد مليًا، وأخبرها بحبٍ ما زالت جمراته تتقد:
    -ياه، أد إيه كان نفسي أخدك في حضني.
    تلقائيًا امتد ذراعاها خلف ظهره لتحاوطه، التصقت به مثلما التصق بها، حتى شعرت وكأنها ستذوب في أحضانه، أعطى تميم جبينها قبلة، وسألها في عتابٍ:
    -وعايزاني أسيبك كده بالساهل؟
    رفعت عينيها لتنظر إليه، وقبل أن تفكر في منحه الجواب، وجدته يرخي ذراعًا ليلفه حول ركبتيها، حملها في خفةٍ، فشهقت لحركته المفاجأة، وسألته في دهشة حرجة:
    -إنت بتعمل إيه؟
    هتف معترضًا بابتسامة بشوشة:
    -لأ، أنا من حقي أشيلك.
    ركلت بساقيها في الهواء، وتلوت بجسدها محاولة التحرر منه وهي تحتج في خجلٍ:
    -ماينفعش، نزلني لو سمحت.
    مازحها بنفس الوجه المسترخي في تعابيره:
    -يا أبلة أنا شيلتك وإنتي غميانة أكتر ما إنتي فايقة.
    كتمت ضحكتها المرحة، وعاتبته في دلالٍ أغراه:
    -برضوه أبلة؟ مزهقتش؟
    سار حاملاً إياها نحو غرفتهما قائلاً بنبرة ذات مغزى، وهذه النظرة اللعوب تتراقص في حدقتيه:
    -أزهق؟ ده أنا لسه هاقول أحلى كلام ليكي.
    واصل السير بها إلى أن مددها على الفراش، استلقت على ظهرها، وحاولت الاعتدال، قبل أن يغرقها بفيض مشاعره، قائلة بجديةٍ، رغم رنة التردد المحسوسة في صوتها:
    -طب، تميم، أنا لازم أقولك على حاجة.
    على ما يبدو لم يركز مع جديتها، والتهت حواسه بالتمتع بهذا الجمال المسجي أمامه، منحها ابتسامة نقية وهو يثني على ما وهبه الله لها من سمات تسلب العقول:
    -هو في كده، ماشاء الله، ده أنا قاعد مع حورية من حوريات الجنة.
    ضمت ركبتيها إلى صدرها، وطالعته بنظرة جادة، وهي ترجوه:
    -اسمعني بس.
    استلقى إلى جوارها، وأمسك بكفها يداعب جلده بإبهامه، نظر إليها في وجدٍ متعاظم، واستطرد هامسًا:
    -سيبك من أي حاجة تنكد علينا، الليلة ليلتنا.
    سحبت يدها من راحته، واعتدلت جالسة لتخاطبه في جدية تامة:
    -معلش، دي حاجة مهمة.
    جلس مستقيمًا هو الآخر، وأبدى استعداده لسماعها، فقال:
    -إيه يا حبيبة قلبي؟
    أمسك التردد بلسانها وهي تستجمع كل شجاعتها لتخبره:.
    -أنا، زمان لما حصلت حريقة الدكان...
    سكتت لحظيًا، فأكمل جملتها بمزيدٍ من التوضيح؛ كأنما يساعدها على تفريغ ما يجوس في صدرها:
    -بتاع عم غريب ؛ أبو هيثم الله يرحمه.
    هزت رأسها هاتفة:
    -أيوه هو.
    امتدت أصابعه لتداعب بشرة وجهها الرقيقة بحنوٍ رقيق، فاقشعرت من لمساته المغرية، تلك التي تبعث إشارات خفية لتأجيج الرغبة فيها، حاولت تجنبها قدر المستطاع، والتركيز على ما تريد قوله، سحبت نفسًا عميقًا، لفظته دفعة واحدة، وحادثته:
    -بص، أنا أصلي، يعني مكونتش حابة افتكر اللي حصل وقتها، لأنه كان مؤذي أوي ليا.
    علق عليها في هدوءٍ، وأصابعه تنخفض نحو كتفها لتمسح عليه في لينٍ:
    -كانت أيام وعدت، ماتفكريش فيها.
    أبعدت يده برفقٍ عن كتفها، وقالت برأس مطأطأ في توجسٍ:
    -المهم النار طالت جزء من جسمي، وعملت فيه زي آ، تشوه.
    تجمد في مكانه لحظيًا ومصدومًا من الوصف الأخير لما أصاب جسدها رغمًا عنها، كانت لا تزال مخفضة لرأسها في قلقٍ مرعوب وهي تواصل كلامها إليه:
    -أنا حبيت أقولك بده، عشان ما تتفاجئش، وتقرف مني.
    انتفض في استهجانٍ مستاء وهو يكرر في صيغة تساؤلية:
    -أنا؟ أقرف منك؟ إنتي بتقولي إيه؟!
    حاولت أن ترفع عينيها لتتطلع إليه وهي تبرر له أسبابها:
    -معلش، عشان آ..
    قاطعها قائلاً بصوتٍ حازم، حاسم، منهي لأي هواجس تدور في عقلها:
    -إنتي أنقذتيني من الموت يا فيروزة.
    هب ناهضًا من جوارها، وخلع قميصه عنه في حركة شبه منفعلة، فحملقت فيه مدهوشة، وسألته بعضلات وجه متقلصة، اِربد بها القلق الكبير أيضًا:
    -إنت بتعمل إيه؟
    استدار لتنظر إلى ظهره العاري، وأشار بيده الأخرى لموضع التشوه المنتشر فيه مرددًا في صوتٍ شبه حاد:
    -شايفة ده، لولاكي كان زماني مُت.
    انفرجت شفتاها عن صدمة ذاهلة، وتبعته بنظراتٍ تائهة لم تفق بعد من دهشتها وهو يجثو على ركبتيه أمامها، احتضن من جديد كفيها، وأردف يخبرها بصوتٍ شبه منفعل:
    -إنتي الملاك اللي ربنا بعته ليا يطلعني من وسط النار.
    تاهت منها الكلمات، وارتعش قلبها وهو ما زال يأسرها باعترافاته:.
    -كنت متأكد إني عارفك من زمان، بس معنديش حاجة ملموسة، لحد ما لاقيتك مرتبطة برسمة الطاووس، ساعتها زاد يقيني بإنك نفس البنت اللي رمت نفسها في النار عشاني، ومن غير ما تعرفني، عشان تنجدني من الموت.
    جف حلقها، ولم يكف قلبها عن الخفقان، وصوته يعاتبها في رفقٍ:
    -تقومي تقولي الكلام البايخ ده؟
    ارتجفت، وهي تهمس بألمٍ:
    -غصب عني، سمعته زمان، وقهرني.
    نهض جالسًا إلى جوارها على الفراش، ترك كفيها، واحتضن وجهها براحتيه، قربها إليه لتشعر بحُر أنفاسه عندما استطرد مزيدًا في اعترافه بعشقها:
    -إنتي غالية أوي، وغلاوتك كل يوم بتزيد في قلبي.
    ارتعشت شفتاها منادية باسمه:
    - تميم.
    قرب وجهها منه، وهتف مؤكدًا بصدقٍ خالص:
    -أنا بحبك.
    همست من بين شفتيها باسمه، بطريقة ناعمة، جاذبة، مغرية، كأنما تقدم له دعوة مفتوحة للتحليق في أفقٍ لطالما انتظره، وعاش وهمه في أحلامه المحرمة:
    - تميم!
    كادت شفتاه تلتصقان بخصتها وهو يتابع وصلة اعترافه:
    -أنا عرفت يعني إيه العشق معاكي.
    حركت وجهها لتلامس وجنتها صدغه، مرغتها فيه برفقٍ، وكررت نداء الإغراء الخفيض الناعم:
    - تميم!
    أغمض عينيه مستمتعًا بما يظفر به من درجات الإغراء والإغواء، ليردد في خفوتٍ:.
    -إنتي عطية ربنا ليا.
    انبعثت منها تأويهة مشبعة بدفءٍ لا قِبل لها به، وهي ما زالت تناديه، بما دغدغ روحه، واستثارها:
    - تميم.
    -واستحالة أفرط فيكي.
    قال عبارته تلك وهو ينحني على شفتيها يقبلها بشراهةٍ ورغبة، في حين امتدت يده الأخرى لتزيح عن كتفيها روبها برفقٍ، فانكمشت، وتصلبت، خشية إحساسه بالنفور منها، لم يمنحها الفرصة للفكاك منه، حاصرها بقربه المهلك، ضمها إليه، فكادت تذوي في أحضانه، وأغرقها بالمزيد من القبلات الجائعة، الباعثة على موجات من النشوة، والرغبة، فأخذها الدوار، تأوهت في صوتٍ حاولت كتمه وهو يلامس بشفتيه منحنى عنقها، لينخفض نحو موضع ندوبها، نادته بتنهيدة خافتة للغاية:.
    - تميم!
    لم تعرف ما الذي ادخره الزمن لها وهي بين أحضانه، فما حُرمت منه قسرًا، نالته نصرًا، غابا معًا عن الوجود، وهاما في ملكوتٍ خاصٍ بهما، مرت الدقائق عليهما كأنها أزمنة وأزمنة، هفا إليها، والتهف عشقًا، إلى أن صار كل ما بها مستسلمًا له، تحرَّقت للامتلاء، وتلهَّف للارتواء، عند المنتهى فاضت واستفاضت، وانكشف السر عنها.
    نهض تميم عنها، واعتدل محدقًا في صدمة غير متوقعة، متأملاً بشارة لم تأتِ في الحسبان أبدًا، بعد أن تفجرت ينابيع العشق، وأعطت دلالاتها الحيَّة، ليهتف في عدم تصديق:
    -مش معقولة، إنتي كنتي آ...
    أكملت الجملة عنه، بوجهٍ مشتعل من حمرة الخجل:
    -بنت بنوت.
    ظل على حالته المصدومة وهي تفسر له:
    -دي الحاجة التانية اللي كنت عاوزة أقولهالك.
    تهللت أساريره وابتهجت على الأخير، بل كاد يقفز من فرط سعادته وهو يتساءل في نفس الصوت المذهول، ويده تمر على أعلى رأسه:
    -يعني أنا أول حد؟
    تطلعت إليه بحياءٍ وهي تشد الغطاء على جسدها تغطيه؛ لكنه دنا منها معاودًا الجلوس ملتصقًا بها وهو يخبرها بغموضٍ:
    -دلوقتي أنا فهمت.
    نظرت بتحيرٍ وهي تسأله:
    -فهمت إيه؟
    أخذها في حضنه، وشدد من ضمه إلى جسده، ليحتويها، ثم قال مبتسمًا في نشوة عارمة:.
    -كلام الدكتورة، والتوصيات الغريبة.
    رمقته بنظرة مطولة جمعت بين الخجل من اعترافها والثقة في تقديره، عضت على شفتها السفلى، وهمست بتحرجٍ:
    -محدش يعرف بالحكاية دي غيرها، حتى ماما معندهاش خبر.
    رفعها بقبضتيه في خفة ليجلسها في حجره، ولفها كليًا بذراعيه، كأنما يحميها، ثم مال على أذنها يداعب طرفه بهمسه المشتعل:
    - فيروزة!
    لم تبعد نظراتها المليئة بالحب وهي تقول:
    -نعم.
    أحنى رأسه عليها، يريد نيل عشرات القبلات من العسل المصفى الموجود على شفتيها، بدت أشهى وأغوى وهي بين أحضانه، وألذ وأطيب وهي تمنحه أكثر مما تمنى في أقصى أحلامه، توغَّل تميم بنظراته الساهمة في عمق لؤلؤتيها الساحرتين، وهو يدنو بهوادةٍ مهلكة للأعصاب منها، لفح لهيب أنفاسه بشرتها الساخنة، وهيأها للمزيد من نوبات الحب العاصف وهو ينطق هامسًا:
    -إنتي قلبي، من غيرك أنا ميت...!
  14. omamer
    رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل التاسع والخمسون
    بمسحةٍ سريعة من طرف لسانه اللزج، على تلك الورقة، تمكن من لصق طرفيها معًا، ليحصل على سيجارة يدوية الصنع؛ لكنها محشوة بمخدر الحشيش. حشر ذلك الرجل الغريب سيجارته بين شفتيه، وراح يشعل طرفها بتأنٍ، ليسحب بعدها نفسًا عميقًا يؤجج به صدره المشتعل بالمزيد من الأنفاس المُذهبة للعقل، أطلق سحبًا من الدخان في الهواء الطلق، ثم تبادل مع رفيقه السيجارة، وسأله في صوتٍ خفيض مهتم:
    -جرب كده وقولي.
    تناولها من الآخر، وبدأ في استنشاق دخانها باستمتاعٍ واضح، ليعقب بعدها بأنفاسٍ معبقة بالتبغ غير البريء:
    -الصنف عالي المرادي.
    هز الأول رأسه في استحسان، وقال بغمزة من عينه الملتهبة من أثر ما يتجرعه من مواد مخدرة:
    -مش قولتلك، حتة معتبرة.
    وافقه الرأي، وعلق في تلذذٍ:
    -أصلي يا واد عمي.
      سار كلاهما على الطريق الزراعي شبه المعتم -والممتد على مدى البصر وسط الحقول- في تكاسلٍ وثقل؛ لكن صدحت أصوات ضحكاتهما المصحوبة ببضعة تعليقاتٍ خليعة، لتبدد السكون السائد إلا من أصوات نعيق الضفادع، وصرير الجنادب. تساءل الثاني وهو شبه مترنح في خطواته:
    -مش معاك حتة زيها؟
    أجابه وهو يشير إلى جيب قميصه:
    -معايا، بس دي شايلها لما نوصل مطرحنا.
    ألح عليه بلسانه الثقيل:
    -هاتها، ده لسه الطريق طويل.
    تساءل الأول في نبرة هازئة:
    -إنت خستعت ولا إيه؟
    نفى ادعائه مبررًا:
    -لا يا عم، ده بس عشان نتنشط كده ونفوق، دي الليلة شكلها فل.
    لم يبدُ ممانعًا لاستخدام القطعة الأخيرة، فوقف الاثنان عند بقعة شبه مضيئة، وقام الأول بإعداد سيجارة أخرى، بنفس القدر من الاهتمام والرعاية. أشعل طرفها، وتذوق طعمها بانتشاء كبير، ليعطيها لرفيقه فيجربها هو الآخر؛ لكنه تغاضى عن إطفاء عود الثقاب الذي استخدمه، وألقاه بإهمالٍ على كومة من المزروعات الجافة الموضوعة عند أول الحقل للتخلص منها باكر. بعد بضعة أنفاسٍ مصحوبة بلحظاتٍ من العبثية والمجون، انتبها إلى سحابة الدخان التي حاوطتهما، التفتا خلفهما، ليجدا ألسنة اللهب قد بدأت ترتفع للأعلى، وبخ الثاني زميله في عتابٍ شبه مهينٍ:.
    -يا دغوف مش تاخد بالك، كده هتقيد النار في الزرعة كلها!
    رد بغير مبالاة:
    -هي تخصنا أصلاً.
    حذره في شيءٍ من الجدية:
    -بس جايز حد يوعلنا.
    قال بضحكاتٍ قصيرة متقطعة:
    -ولا حد هيبقى دريان بينا...
    على ما يبدو بلغت عدم مبالاته أقصاها، فأخرج من جيبه زجاجة صغيرة، تحوي على مشروب مُسَّكِر، وقام بسكبه كاملاً على كومة الزرع، لتتوهج ألسنة اللهب، وتزداد حدة، ضحك مجددًا بصوتٍ غريب، ثم هتف في استمتاعٍ مريض:.
    -وأهوو خليها تصهرج وتصهلل.
    شاركه زميله الضحك الماجن، وعقب وهو بالكاد يحاول تمالك نفسه وسط نوبة الضحك الهيسترية:
    -أما إنت عليك حركات.
    راح الرجل يدندن في صوتٍ مرتفع ومزعج وهو يرقص حول النيران الحمئة:
    -نار، نار، نار، وأنا قلبي قايد نار.
    تمايل زميله بجسده معه، وطاف حوله في خلاعةٍ إلى أن انتشرت النيران في معظم الحقل، توقفا عن اللهو، وتعلقا في ذراع أحدهما الآخر للحفاظ على توازنهما، سارا مرة ثانية في ترنحٍ، والأول يتكلم في لسانٍ ثقيل:
    -طب بينا بقى بدل ما النفسين يطيروا.
    غادر الحقل، وألسنة اللهب تتصاعد للأعلى في نشاطٍ وقوة، كأنها كانت تتحين الفرصة للتوهج والانتشار، وها قد واتتها الفرصة لتأتي على الأخضر واليابس بلا هوادة أو رحمة!
    أصبح الهواء فيما حول المقهى الشعبي المتواجد على أطراف البلدة معبقًا بأدخنة النارجيلة المنتشرة بداخله وخارجه، واختلطت مع الدخان المنبعث من حجر المعسل، غطت الرائحة القوية للمدخنين على رائحة شوي اللحم، وأصبح مذاق ما يتناوله رواد المكان من أطعمة مصبوغًا بالتبغ والدخان. أشار فضل لعامل المقهى بيده ليبدل له حجر الفحم بعد أن انطفأت جذوته، واستدار ناظرًا إلى رفيقه حين كلمه في لهجةٍ شبه جادة:.
    -ما تشيلها من دماغك.
    التهب نظراته، وصارت أكثر شرًا وهو يعقب عليه في إنكارٍ ساخط:
    -أشيلها؟ ده أنا مافيش حُرمة استعصت عليا زيها...
    استكمل باقي جملته بين جنبات نفسه متذكرًا ما تعرض له من إذلال جسيم طال رمز فحولته:
    -غير ما النكبة اللي بقيت فيها بسببها.
    تنبه من جديد لرفيقه وهو يسدي له النصيحة:
    -يا عم شاور على أي واحدة تكون طوعك، وتحت رجلك.
    قال بغليلٍ مرتفع في صدره، وبعينين تطقان بالشرر:.
    -مافيش إلا هي، هاخدها وأكسر رقبتها.
    حك رفيقه جانب رأسه بالمبسم، قبل أن يدسه بين شفتيه وهو يضيف في مكرٍ:
    -صحيح، عرفت إن أم عيالك بطنها شالت تاني؟!
    زاد الكدر في عينيه وهو يعقب بقنوطٍ شديد:
    -وش البومة، أل يعني المشرحة ناقصة قتلى!
    تابع في خبثٍ، كأنما يقصد استفزازه:
    -ده بيقولك رشيد عامل عمايله، ومروق على أهل بلده بسبب حبلها ده.
    بدا غير مبالٍ بأمرها، ونطق هازئًا:
    -يعني جاب الديب من ديله!
    امتدت يده لتمسك بالكوب الزجاجي، وتجرع آخر رشفة في شايه قبل أن يغمغم قائلاً:
    -الناس بتحكي وبتتحاكى، هو أنا اللي بأقول.
    لوى ثغره مدمدمًا في حنقٍ محسوس في نبرته:
    -تلاقيها نمرة عاملها عشان يقول بيها إنه راجل وبيعرف آ...
    ثم ضحك ضحكة سخيفة مصطنعة كأنما يقصد بذلك منع نفسه من قول تلميحٍ خليع، وعاد ليتابع كلامه باستهزاءٍ:
    -فاهمني، وهو خروف لا بيهش ولا بينش.
    رفع رفيقه حاجبه متسائلاً في دهشةٍ مفتعلة:.
      -معقولة؟ قول كلام غير ده.
    أكد عليه بثقةٍ عجيبة:
    -أه يابا، هي كانت أول ولية تجيب عيل؟ ما أنا جايب منها كوم، وبعدين ما أنا رميتها لغيري، فَضلة، ماتسواش!
    حقده المرير تجاه سها، جعله يلفق الأكاذيب، ليظهرها بمظهر السوء، وإن لم يكترث لعواقب زلات لسانه. قطع لغوهما الفارغ نداء أحدهم المفزوع وهو يركض من مسافة بعيدة، تنبه جميع من في المقهى إليه، وعلى وجه الخصوص فضل، خاصة عندما خاطبه هذا الرجل بأنفاسه اللاهثة:.
    -إلحق يا سي فضل.
    نظر إليه شزرًا قبل أن يسأله بتأففٍ، وهو يحرر دفعة من دخان النارجيلة:
    -في إيه يا غراب البين؟
    أشار له نحو الفراغ وهو يجيبه في جزعٍ:
    -النار قايدة في الأرض بتاعتكم، جابت عاليها واطيها.
    انتفض واقفًا بعد سماعه لتلك الجملة الصادمة، ودفع بقدمه النارجيلة لتتبعثر محتوياتها على الكليم، وصوت صراخه المرتاع يصيح عاليًا:
    -بتقول إيه يا وش الفقر؟!
    أكد عليه من جديد وهو يحاول التقاط أنفاسه:.
    -النار ماسبتش شبر إلا وطالته.
    لطم بيديه على صدغيه هاتفًا في تحسرٍ شديد قبل أن يهرول كالمجذوب نحو أرضه المشتعلة:
    -يادي الخراب المستعجل اللي حط على دماغ الواحد.
    مر عليه وقت لا يعلمه سوى المولى عزوجل، وهو يترقب انتهاء فقرات حفل الزفاف التي ظن أنها لن تنتهي أبدًا، وصل المطاف إلى فقرة تناول قالب الحلوى، تأهبت فيروزة في جلستها على الكوشة، وظهر التوتر على محياها، حاولت التماسك، ومقاومة الخيالات التي راودتها بشأن ما يحدث من تجاوزات ومداعبات بين الأزواج في تلك اللحظة المرحة، أدارت رأسها في اتجاه تميم، واشترطت عليه بجديةٍ:
    -يا ريت اللي بنشوفه وبيحصل في آ...
    وصل إليه تلميحها المتواري دون الحاجة للمزيد من الإيضاح، فقاطعها مؤكدًا عدم ارتكابه لأي تصرفٍ قد يخجلها:
    -اطمني، كل اللي عاوزاه هيحصل.
    أحست بالارتياح لتفهمه العقلاني، خاصة أن بعض الأزواج لا يخجلون من وضع زوجاتهم محط الأنظار باختطاف قبلة جريئة على مرمى ومسمع من الحاضرين. تركت باقة الورد موضعها، ونهضت في تهملٍ لتشاركه ذكرى أخرى جديدة، ستضاف حتمًا إلى قائمة ذكرياتهما معًا.
    توقف الاثنان في منتصف القاعة تقريبًا؛ حيث تم وضع القالب الطويل، ناول أحد مشرفين التنظيم السكين للعروس، لتمسك به أولاً، قبل أن يضع تميم قبضته على يدها، شعرت بقوة أصابعه وهي تضم كفها، كأنما تحتويه في سطوة غير مشكوك فيها، نظرت إليه ملء عينيها بنعومة يشوبها التوتر، فرأته يمنحها كل ما تحتاج للشعور به وهي إلى جواره من أحاسيس صادقة، عاشقة، تفيض بالحب والحنان. تساءل مبتسمًا، وعيناه لا تبرحان صفحة وجهها النضرة:.
    -جاهزة؟
    هزت رأسها مرددة ببسمة رقيقة:
    -أيوه.
    ارتفعت يداهما معًا للأعلى، ليبدأ تقطيع القالب، وهبطتا بالتدريج في تناغم لطيف وهادئ، دون أن تحيد النظرات الساهمة عن بعضها البعض؛ وكأنها كانت فرصتهما المتاحة لعيش لحظة حالمة وهما عند هذا القرب. تدارك تميم استطالته في النظر إلى عروسه الجميل عندما خاطبه المشرف:
    -اتفضل يا فندم.
    حول عينيه ناحيته ليجده يمد يده بشوكة موضوع بها قطعة من الحلوى، أخذها منه، وقدمها للعروس وهو يبتسم لها، أمسكت بها بيدها وتناولت ما بها، فلم يعترض على تصرفها، وفعلت المثل معه، لتنتهي الفقرة بتصفيق المدعوين، وعودتهما إلى الكوشة مصحوبين بالزغاريد وموسيقى الأفراح.
    من تلك البقعة النائية عن الزحام، أخذ يراقب شاشة العرض بتعابيرٍ شبه عابسة، يتطلع إلى ما تبصره عيناه من محبة غير قابلة للإنكار بضيقٍ، ورغم محاولاته المضنية لتقبل الأمر، إلا أن هناك غصة كانت عالقة بحلقه، استدار هيثم مبتعدًا عما يشاهده، وتحرك برضيعه جيئة وذهابًا في نفس المكان يهدهده في رفقٍ، إلى أن أقبلت عليه زوجته، توقف عن السير، ونظر إليها وهي تخاطبه:
    -عنك يا هيثم، تلاقي خالد تعبك.
    قال بتجهمٍ ما زال معكوسًا على ملامحه:
    -لأ، معظم الوقت نايم.
    ابتسمت وهي تأخذه في أحضانها:
    -كويس.
    أشاح هيثم بوجهه بعيدًا عنها، ليخفي ضيقه البائن عليه، وتعلل بحجةٍ واهية:
    -أنا همر على الترابيذات، هاشوف إن كان حد ناقصه حاجة كده ولا كده.
    هزت رأسها مرددة من خلفه:
    -طيب، وأنا هاروح عند فيروزة.
    من الجيد أنها لم تكن ناظرة إليه، وإلا لرأت ضيقه المتزايد في مقلتيه، ففطنت إلى انزعاجه من حفل الزفاف المبهرج، ابتعد عنها قبل كشف أمره، وواصل السير حتى اعترض طريقه بدير، فاستوقفه الأخير، وأجال ناظريه عليه، استطاع بخبرته أن يلاحظ تبدل قسماته، حافظ على جمود تعابيره، وسأله في اهتمامٍ:
    -عامل إيه يا ابني؟
    بوجهٍ يعكس امتعاضه أجاب:
    -الحمدلله يا جوز خالتي.
    استحثه بدير على التحرك معه قائلاً:.
    -تعالى اقعد مع جدك شوية، بيسأل عليك من بدري.
    لم يجد بدًا من الفكاك منه، وقال مستسلمًا:
    -حاضر.
    سار معه إلى الطاولة الجالس عليها الجد سلطان ؛ حيث القليل من الهدوء، بعيدًا عن صخب الموسيقى المزعج، سحب هيثم المقعد، وجلس إلى جواره متسائلاً في جدية:
    -خير يا جدي؟
    لم يمهد سلطان في حديثه إليه، وسأله مباشرة دون مراوغة، وهو ينظر في عمق عينه التعسة:
    -مبسوط؟
    جاوبه بملامح مكفهرة:
    -مش عارف.
    صمت الجد، ولم يعقب متوقعًا أن يبوح بمكنونات صدره، وقد كان؛ حيث استطرد مستفيضًا بألمٍ محسوس في نبرته:
    -بس اللي ماتت دي كانت قبل ما تكون مراته أختي، وحازز في نفسي أشوف الحلو كله بيتعمل لغيرها.
    علق عليه سلطان بهدوءٍ:
    -محدش بياخد أكتر من نصيبه، وأختك ربنا كرمها وقتها، واتراضت، بس نصيبها انتهى معاه لحد كده، وراحت عند اللي أحسن مني ومنك، هتعترض على مشيئة ربنا؟
    استبد به ضيقه، وطفا على السطح، خاصة وهو يحتج عليه:
    -لأ، بس هي ملحقتش تفرح زي أي واحدة، اتاخدت غدر.
    تنفس الجد بعمقٍ، وخاطبه بلين الكلام، علَّه يقتنع:.
    -ربنا ليه حكمة في قضائه، افتكر قوله تعالى وهو بيقول في كتابه الكريم (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ) شوف دلوقتي كلنا بندعي لأختك بالرحمة، والجنة، تخيل لو كانت فضلت على حالها، وظُلمها للغير، كانت هتلاقي اللي يدعيلها؟
    أطرق رأسه كأنما يفكر في حديثه، فتابع الجد على نفس الوتيرة الهادئة:
    -في يا ابني ميت بيتقال عنه ده ارتاح، وميت تاني بيتقال ده مُستراحٌ منه، يعني هتلاقي الناس فرحنا إنه مات، وتقولك كويس إن ربنا ريحنا منه.
    ضغط على شفتيه لهنيهةٍ، ثم زفر قائلاً:
    -معاك حق.
    شدد عليه الجد مجددًا بنبرة جمعت بين اللين والحزم:.
    -حط ده في راسك عشان ترتاح، إنت ربنا كرمك، وعوضك بزوجة طيبة، بتحبك، وعارفة إزاي تصونك في غيابك، ومش بس كده رزقك كمان بابن صغير من صلبك، هيكبر ويشيل اسمك، اجتهد إنك تزرع جواه الخير، عشان وقت العجز تحصد خيره.
    حرك رأسه بإيماءة صغيرة وهو يخبره:
    -حاضر يا جدي.
    مد سلطان يده ليربت على كتفه هاتفًا بودٍ:
    -ربنا يرزقك الرضا، ويصلح حالك.
    نهض هيثم من مكانه وهو يرد:
    -يا رب...
    ثم تلفت حوله متسائلاً:
    -أجيبلك حاجة يا جدي؟
    أجابه مبتسمًا في حبورٍ:
    -لأ، الحمدلله، أنا مرضي على الآخر.
    أحنى هيثم رأسه على جبينه يقبله في تقدير، وقال ممتنًا:
    -ربنا يخليك لينا يا جدي، ودايمًا تكون لينا العون والسند.
    حافظ سلطان على نقاء بسمته وهو يدعو له عن طيب خاطرٍ:
    -ربنا يهديك ويراضيك.
    بالكاد تمسك بآخر ذرات صبره الذي طال، واستطال، وأوشك على الانقضاء من كثرة الترقب والانتظار، مع انتهاء مراسم حفل الزفاف على خير، أما آن له بعد أن يظفر بكُلها؟ انتظر تميم بجوار باب سيارة رفيقه منذر الذي أصر على قيادة سيارة الزفاف لإيصاله إلى منزله، على أن يتبعه شقيقه، وباقي المشاركين فيما يعرف ب (زفة السيارات).
    اختلس النظرات نحو طاووسه المتباهي، كانت كالملكة المتوجة، تحاوطها ذوات الحسن؛ لكنها أكثرهن بهاءً وتأثيرًا، ويا ليت الأعين تشبع من النظرات! فما عاد يعلم حاليًا سوى أن دمائه المتدفقة في عروقه أدمنت عشقها، وباتت تحترق شوقًا على جمرات العشق لنيل ودَّها، فأنى له الإتيان بالصبر وهو أسير تعويذة جمالها؟ حاد مرغمًا ببصره عنها ليتطلع إلى منذر وهو يخاطبه بمزاحٍ:
    -عاوزينك ترفع راسنا يا عريس.
    ابتسم في ثقةٍ قبل أن يرد:
    -من الناحية دي اطمن.
    تدخل دياب في الحوار هاتفًا بعبثية:
    -طبعًا، الخبرة كلها معانا.
    سكت واكتفى بالابتسام، فأضاف بنفس الطريقة المازحة:
    -كله بالحنية بيفك.
    علق عليه منذر ساخرًا، وضحكة تبعت كلامه:
    -ده بأمارة ما مراتك معلمة عليك.
    تنحنح قائلاً في حرجٍ طفيف وهو يدعك مؤخرة عنقه:
    -مش أوي، ربنا يجعل سيرتها خفيفة علينا، ده أنا هاخد تكديرة محترمة إكمن مخدتهاش معايا.
    رد عليه تميم بلطفٍ:.
    -تتعوض في مناسبات تانية.
    هز رأسه مغمغمًا:
    -إن شاءالله.
    في تلك الأثناء، ساعدت كلاً من هاجر و همسة العروس على الاستقرار في المقعد الخلفي، وقمن معًا بضم أطراف الثواب وجمعه، لئلا يعلق بالباب حين يتم غلقه. لوحت فيروزة بعد ذلك لوالدتها التي كانت مشغولة بحمل الرضيع خالد، ثم بحثت بعينين تواقتين عن زوجها، رأته عند المقدمة يضحك وسط رفيقيه، فابتسمت لضحكاته العذبة، مستشعرة تلك الأحاسيس الشائكة اللذيذة التي لازمتها مؤخرًا، حين تكون قربه، فماذا إن انفرد بها؟ بالطبع لن يدخر وسعه في التعبير عمليًا وحسيًا عن مشاعره لها، توقفت عن الاستغراق في ضجيج أفكارها شبه الجامحة، وادعت التهائها بمتابعة ما تردده همسة من نصائح مرحة، لإضفاء جو من الرومانسية على العروسين، فما زادها هذا إلا ارتباكًا وتوترًا.
    تجمدت حدقتاها عليه وهو يستدير عائدًا للسيارة، ليستقر إلى جوارها، شعرت بتلاحق خفقات قلبها، باندفاعه العاصف بين ضلوعها؛ كأنما يريد التحرر والذوبان بين يديه. توالت الارتجافات الخفيفة على بدنها بشكلٍ لا يوصف، عندما وجدته يلتصق بها، شعرت بأن دروعها المنيعة، على وشك الانهيار، مع لطف عباراته الرنانة، حين يتغزل بها بالبسيط من الكلمات، لم تسكن مشاعرها المضطربة إلا حينما تخللت أصابعه كف يدها، نظرت أولاً إلى يديهما المشبكة معًا قبل أن ترفع حدقتيها إليه، لتجده يطالعها بما نفذ إلى جوهر الفؤاد توًا من فرط عذوبته. تقوست شفتا تميم عن بسمة صافية وهو يهمس لها:.
    -مبروك يا أحلى طاووس!
    زوت فيروزة ما بين حاجبيها في دهشة خفيفة، قبل أن تردد:
    -طاووس؟!
    مال نحو أذنها ليكرر مؤكدًا عليها، في نبرة متملكة، داعبت مشاعرها الأنثوية:
    -أيوه، طاووسي الأبيض!
    خفقة تبعتها أخرى أشد وطأة على قلبها، مصحوبة بتماوجات من المشاعر المرهفة، سيطرت على كامل بدنها، وبدأت في تأجيج جذوات الحب بحصونها، حاولت استعادة يدها من بين أصابعه؛ لكنه رفض، وأصر على الإمساك بها بهذا القيد شبه المحكم، ثم أخبرها بصوته الخفيض، وعيناه تنظران إليها بتصميمٍ:
    -مابقاش في بُعاد تاني.
  15. omamer
    رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الثامن والخمسون
    بدت في تلك اللحظة المميزة وكأنها ثمرة ناضجة، تشتهيها الأعين، يطيب أُكلها، وها قد حان وقت قطفها. شعرت فيروزة أمام تلك النظرات المتيمة التي يرمقها بها، كأنما حلقت فوق السحاب، تلقائيًا استحضر عقلها مشاهد سريعة مبهمة لمراسم عقد قرانها الأول، كانت بغير فرحة، تؤدي دورها كأي عروسٍ، دون الشعور بشيء سوى الرهبة والقلق مما هو قادم، أما اليوم فمع نادئه العذب بحروف اسمها، تخللتها مشاعر غريبة، استثارت حواسها، وداعبت أعماق أعماقها.
    نفضت عن رأسها الذكريات المزعجة، وجعلت كامل تركيزها منصبًا على ما تعايشه الآن، رجفة طفيفة عصفت بها مجددًا، لا رهبة من المجهول، وإنما توقًا للتقرب أكثر منه، أيمكن للحب أن يسمو بالمشاعره بهذه الطريقة؟ جاءها الرد في بواطن عقلها بالإيجاب.
    أشار لها تميم لتتعلق في ذراعه وهو يخاطبها بتنهيدة حارة مفعمة بالمزيد من الأشواق، ليستحثها على التحرك:
    -مش يالا بينا.
      برجفة خفيفة مدت ذراعها نحو خاصته، تأبطته في ترددٍ خجل، وشعورٌ مغري بالاحتواء قد بدأ في التسلل أسفل جلدها، ربما روى القليل من ظمأ القلوب العطشى. بمجرد أن لامسته أحست بثقل أنفاسه، وبتصلبٍ طفيف يسيطر عليه. سحبت –هي الأخرى- شهيقًا عميقًا حاولت به ضبط الانفعالات المضطربة التي اجتاحتها حاليًا مع اقترابه الموتر لها. نظرة جانبية خاطفة منحته لها، فرأته ينظر إليها ملء عينيه بمحبةٍ تفوق الوصف؛ كأنما لا يبصر سواها، ومن ينظر لغير القمر وهو يمتلكه بين راحتيه؟ توهجت بشرتها، وشاعت فيها حمرة متدرجة، اختفت جزئيًا أسفل مساحيق التجميل؛ لكن أثرها الدافئ شعرت به كليًا.
    سارت على مهلٍ لئلا تتعثر في أطراف ثوبها الطويل، ومن خلفها لحقت بها توأمتها، تنحني كل بضعة خطواتٍ لتفرد لها ما يلتف من القماش أو يتعقد. صدحت الزغاريد المبتهجة حين خرجت إلى العلن، كانت الفرحة غير مزيفة، صادقة، نابعة من قلوبٍ صافية، طافت بنظراتٍ سريعة على الوجوه المحدقة بها، فوجدتهم قد اتفقوا جميعًا على إظهار مشاعر الود والسعادة لكليهما.
    تقدمت ونيسة أولاً لاستقبالها، وراحت تهنئها بعد زغرودة عالية:.
    -مبروك يا بنتي، ربنا يتمم بخير، ويرزقك سعادة الدنيا والآخرة.
    تشكلت بسمة ناعمة على ثغرها، وردت بصوتٍ شبه مهتز من الخجل الممزوج بالحياء:
    -الله يبارك فيكي يا طنط.
    حملقت فيها فيروزة وهي تخاطب ابنها، بما يشبه الوصية:
    -عروستك بين إيدك أهي، تحافظ عليها، مش هوصيك.
    عفويًا أرادت النظر إليه وهو يعلق على والدته، فوجدته يحدق فيها بنظراته العميقة، التي تنطق بشغفٍ نفذ إلى وجدانها على الفور من مدى صدقه، ارتفع دبيب قلبها، وصار كالمجنون وهو يؤكد عليها:
    -يامه اطمني، دي محطوطة جوا قلبي.
    قطع تواصلهما البصري مجيء آمنة التي وقفت أمام ابنتها تبارك لها:
    -ماشاءالله يا بنتي، ربنا يفرح قلبك ويسعدك.
    ابتسمت وهي تعقب عليها:
    -الله يبارك فيكي يا ماما.
    أوصتها هي الأخرى على زوجها:.
    -خلي بالك منه، ده سيد الرجالة، وحطيه جوا عنيكي.
    طأطأت رأسها في استحياء، وهمست بصوتٍ متلجلج من ربكتها:
    -حاضر.
    أن تكون محط الأنظار في ليلة كتلك احتاج لبذل جهد جهيد للبقاء في سكينة، وإن كان القلب في أوج حماسه وانفعاله السار.
    أصر بدير على عقد مراسم القران أولاً، قبل الشروع في إقامة أي مظهر من مظاهر الفرح، ليكون ابنه على حريته مع زوجته، بعد أن طال انتظاره وترقبه لهذا اليوم المنشود. تحولت مقدمة القاعة بعد عشر دقائق، إلى مجلسٍ يضم المأذون الشرعي، وكيل العروس، وعدد لا بأس به من الشهود، في حين جلست فيروزة على مقعدها بالكوشة، وحولها النساء المبتهجات من العائلتين. تساءل المأذون بصوته الهادئ وهو يدور بنظره على من حوله:.
    -مين وكيل العروسة؟
    تكلم خليل قائلاً وهو يتحفز في جلسته:
    -أنا إن شاءالله.
    هز رأسه في استحسانٍ، وتساءل مجددًا:
    -على بركة الله، والشهود جاهزين؟
    أجاب عليه تميم وهو يشير بنظراته إليهما:
    -جدي إن شاءالله، وصاحبي منذر.
    حرك المأذون رأسه بإيماءة بسيطة، قبل أن يقول:
    -تمام، إيدك يا عريس.
    تعانقت الأيادي معًا، وحُبست الأنفاس لوهلةٍ، ليردد بعدها المأذون في صوتٍ هادئ جهوري مستخدمًا الميكروفون ليصل الصوت لجميع من في القاعة:
    -بسم الله نبدأ.
    غاصت في أمانيها وأحلام يقظتها خلال عقد القران، تنظر من عليائها إلى كل من جاء للحفل لمشاركتها فرحتها، لم تصدق أنه في بضعة أشهر تبدل بها الحال، وصارت واحدة أخرى غير تلك المضطهدة المغلوب على أمرها بعد معاناة امتدت لفترات طويلة، كانت اليوم أكثر قوة، إرادة، ورغبة في التنعم بمباهج الحياة، والعيش في صنوف الحب الجميل. رغمًا عنها، انعقدت المقارنات في رأسها، ويا ليت عقلها يكف عن ذلك الأمر! فشتان الفارق بين الليلتين، واحدة أجبرت فيها على ابتلاع مرارة الظلم، والارتضاء بمن أمطرها بمعسول الكلام، فقط للهروب من افتراءات الألسن، فعاشت أسوأ كوابيسها، وآخر بذل الغالي والنفيس لحمايتها من شرور البشر، دون أن يكترث لأمر سلامته شخصيًا، المهم أن تشعر في الأخير بالأمان، والسكينة، إلى أن استشعر قلبها حبه الصادق النابع من بواطنه.
    تدثرت بالعواطف الذكية التي راحت تنشط في ذاكرتها، مع كل موقف أثبت لها فيه أنه جديرٌ بها، وقتئذ أدركت أنه منحها أسمى معاني الحب العذري، ذلك الحب الخالي من الأطماع، والأهواء، خرجت من شرودها عندما تنبهت لصوت تميم وهو يردد في نشوة عارمة عمًّت أرجاء القاعة:
    -وأنا قبلت الزواج منك.
      اتجهت عيناها إليه وسط الزحام المحاوط به، لم تستطع تبين وجهه المختفي خلف من هم فوق رأسه، فحادت بنظراتها نحو شاشة العرض التي ركزت فيها على ملامحه، رأته في كامل بهجته، لم يكن مدعيًا، ولم يزف مشاعره، بل بدا متفاخرًا أنه حظى بها كزوجةٍ في النهاية بعد مشقة واجتهاد، حينئذ زاد شعورها بالاعتزاز والشوق، فرجلٌ مثله استحق امرأة مثلها!
    دقائق أخرى مضت عليها وهي تتلقى المباركات والتهنئات ممن حولها، إلى أن خف التزاحم، وظهر تميم من بين هؤلاء، عندئذ شعرت بخفقات متلاحقة تعصف بقلبها، دبت في شغافه ارتجافات الفرحة، وتفشت في أوصالها ارتباكة عظيمة، لم تهدأ باقترابه، ولن تهنأ إلا في أحضانه!
    وقف قبالتها يرمقها بنظرة مطولة، احتوت على الكثير مما أراد البوح به والتعبير عنه؛ لكنه امتنع مرغمًا عن ذلك، تقديسًا لما بينهما من مشاعر سامية، وعواطف غالية، لا يجوز الإفصاح عنها إلا في طقوس خاصة تليق بها. كانت كالحلم الذي اقترب كثيرًا من تحقيقه، وأوشك على الغوص في كافة تفاصيله، ومعايشتها بروحه ووجدانه، تقوست شفتاه عن بسمةٍ نقية، أضاءت وجهه أكثر وهو يستطرد مهنئًا بقليلٍ من الغزل:
    -مبروك يا جميل.
    رمشت بعينها في توترٍ، وقالت بصوتٍ خجول:
    -الله يبارك فيك.
    خفضت من رأسها لتجده يمد يده ناحيتها، فرفعت ناظريها إليه تسأله بنظرة متسائلة حائرة، فأجاب مفسرًا في تهذيب:
    -الزفة مستنيانا.
    اعترضت في ترددٍ واضح:
    -مكانش ليه لازمة وآ...
    قاطعها قبل أن تنهي جملتها بعشمٍ وصدق:
    -أنا بعيش معاكي كل حاجة كأنها أول مرة..
    رمقته بنظرة مليئة بالاهتمام، لمعت بشدة، وظهر التأثر عليها عندما تابع:
    -لأني عايشها بقلبي.
    منحته يدها في استسلام، وهي تطالعه بنظرة حانية، تحوي قدرًا من المشاعر الشغوفة، فاشتهى ضمها بشدة، ورغم ذلك قاومت رغبته الملحة، وأرجأها لوقت لاحق، حين ينفرد بها، عندئذ ستختبر معه كافة درجات الهيام، وهو يجيد التعبير باحترافيةٍ عن هذا!
    ثبتت في مكانها تصفق بيديها في وقارٍ، وهو أمامها يرقص مع رفاقه في بهجةٍ عارمة، كانت عيناها لا تفارقان وجهه، تتبعه في لهفةٍ أينما اتجه، كأنها تخشى أن تضيعه في لحظة تلتهي فيها عند متابعة غيره، ومن وقت لآخر التفت ناحيتها يمنحها ابتسامات ناعمة ونظرات شغوفة مليئة بالرغبة، قابلتها دومًا بنظرة متدللة مرحبة كأنما تحوي في باطنها على دعوة خفية لتذوق فاكهة الجنة الشهية.
    وقعت عينا فيروزة مصادفة على الصغير المشاكس، ذاك الذي راح يُراقص رقية في مرحٍ متحمس، تصنعت العبوس، وأرسلت إشارة صارمة إلى تميم بمجرد أن نظر ناحيتها، تطلع الأخير إلى حيث أشارت، فهز كتفيه مرددًا بضحكة حيرى:
    -طب أعمله إيه؟
    حدجته بتلك النظرة القوية، فرضخ أمام تحذيرها المبطن، وتحرك تجاه يحيى يطلب منه مبتسمًا:
    -تعالى ارقص معايا.
    رفض الصغير بعنادٍ طفولي وهو يتمايل بجسده:
    -لأ، أنا عاوز أرقص مع الأمورة دي.
    ردت عليه رقية بصوت مرتفع تصحح له:
    -اسمي كوكي.
    بادلها الصغير الابتسام، وعَرَّف بنفسه وهو يمد يده لمصافحتها:
    -وأنا يحيى.
    صافحته، فوجدته يجذبها إليه، ويضمها إلى صدره، فحانت من تميم نظرة جانبية نحو فيروزة فوجدها تحدجه غير راضية عن الانسجام الحادث بين الصغيرين، فتنحنح مناديًا على رفيقه:
    -يا دياب! حل الإشكالية دي بسرعة بدل ما يتنكد عليا.
    جاء إليه متسائلاً في دهشة:
    -إشكالية إيه؟
    عاتبه تميم بوجهٍ شبه جاد:.
    -ماينفعش اللي بيحصل ده، مرة بوس، ومرة حضن!
    رد عليه دياب بمزاحٍ وهو يمرر يده بين شعره:
    -لأ معاك حق، طب أداري عليهم بضهري ولا إيه؟
    رمقه بنظرة حادة قبل أن ينذره بغيظٍ:
    -بقولك لِم ابنك، تقولي أداري؟
    حافظ على ابتسامته المرحة وهو يخبره:
    -خلاص يا سيدي اعتبرني خطبتها لابني، ومؤجلين الخطوبة لكام سنة قدام عقبال ما ياخدوا الابتدائية.
    نظر له تميم في استخفافٍ قبل أن يعقب:.
    -إنت الكلام معاك ماينفعش، كل حاجة واخدها هزار...
    ثم التف نحو رقية يأمرها بلهجةٍ جادة وهو يتصنع الابتسام:
    -تعالي يا كوكي.
    اعترضت عليه، وقالت وهي تتمايل في مرحٍ:
    -عاوزة أرقص مع يحيى شوية يا عمو.
    هنا رد عليه دياب مبتسمًا على الأخير:
    -سمعت بنفسك.
    تركزت كافة الأنظار مع الصغيرين، خاصة يحيى الذي تكلم في هدوءٍ وهو يخرج من جيب سترته قطعة مغلفة من الحلوى:
    -أنا جبتلك شيكولاته من جوا، خدي.
    تناولتها رقية من يده وهي تبادله ابتسامة لطيفة، قبل أن تقول:
    -شكرًا.
    انتفض كلاً من تميم و دياب في صدمةٍ حينما أتت فيروزة بغتةً، وصاحت في استنكارٍ، كأنما أمسكت الجميع بالجرم المشهود، لا بتبادل قطعة من الحلوى اللذيذة:
    -ده اسمه إيه ده؟
    أجاب دياب بتعابيرٍ شبه جادة، تشوبها بسمة مهذبة:
    -بيصالحها، مش كان مزعلها المرة اللي فاتت؟
    حولت أنظارها نحو تميم، وسألته في تحفز:
    -وإنت موافق على كده؟
    تنحنح في خفوتٍ قبل أن يقول محايدًا:
    -الصلح خير.
    أوشكت على الاعتراض، لكنه سحبها من ذراعها، وحاوطها من خصرها بذراعه الآخر، ليلصقها بصدره، جذبها بعيدًا عنهم، وطوقه ما زال مُحكمًا حولها. مال على أذنها يهمس لها في عبثيةٍ:
    -بصي، احنا نسيبنا من العيال دلوقتي، وتعالي أقولك كلمتين كده حلوين تستاهليهم.
    حركته المفاجئة أربكتها بشكلٍ كلي، أحست بفيضٍ من المشاعر الغريبة المصحوبة برعشات متقطعة تجتاحها في غزوٍ كامل مباغت يضرب كل جزء حسي بها، تلعثمت وهي تحتج عليه:
    -بس آ...
    قاطعها مجددًا بصوته الهامس، المذبذب لكيانها، دون أن تخف قبضته عنها:
    -يالا بينا بس، ده أنا مصدقت إنك بقيتي ليا، وكلها شوية وأخدك في حضني.
    ارتج داخلها، وتزعزعت أعمدة الصلابة مع لهيب أنفاسه اللافحة لبشرتها. ادعت تماسكها، وبحثت بنظرها عن توأمتها، وجدتها على مقربةٍ منها، فطلبت منها:
    - همسة، عينك على كوكي.
    هزت الأخيرة رأسها موافقة، في حين استمر تميم في الابتعاد بطاووسه الصارم عن الصخب المحيط بهما، ليواصل كلامه إليها بلطافةٍ:
    -ده إنتي شكلك هاتبقي حماة صعبة.
    عند هذا القرب المغري أخبرته بابتسامة واثقة، ونظراتها اللامعة تكاد تنفذ إلى عمق عينيه:.
    -طبعًا، مش هاسكت عن الغلط.
    وجدته يخفض عينيه ليتطلع إلى شفتيها باشتهاء واضح، جعلها تهتز، خاصة حين غازلها بتنهيدة حارقة:
    -قمر، أوي.
    حاولت الانسلال من ذراعه المطبق عليها، والتحرر من هذا التهديد المحفز لرغباتٍ تتولد بداخلها؛ لكنها فشلت في الإفلات من حصاره المطوق لها، بلعت ريقها، وحذرته بصوتٍ متلجلج خجل:
    -مايصحش.
    استمر على قربه الخطير، وشدد من ضمه غير الكامل لها، وهو يخبرها بنبرة ذات مغزى بعد أن أصبحا شبه معزولين عن الزحام الموجود بالقاعة:
    -ده احنا لسه هنقول اللي يصح، واللي مايصحش لما نبقى لواحدنا.
    تلبكت، وسرت فيها رعدة لذيذة، قاومتها بعزمٍ متأرجح بين الثبات والاستسلام أمام تلك المغريات المتصاعدة. استجمعت شتاتها لتقول بغموضٍ حرج، معكوس في نظراتها التي بدأت في تحاشيه:
    -أنا كنت عاوزة أقولك على حاجة كده.
    دار في خلده أنها تعاني من آثار زائرتها الشهرية، فهتف في توجسٍ مفزوع:
    -أوعي تقولي ظروف، كده أبقى أنا نحس بجد!
    كتمت ضحكة خجلة على إثر ردة فعله الطريفة، وقالت وهي ما تزال على ترددها:
    -لأ، حاجة تانية مهمة.
    منحها نظرة مترقبة، غير متعجلة، كأنما يحبذ أن تطيل في سكوتها، ليزيد من تودده إليها بالتصاقه المتعمد بها، زاد التردد على محياها أمام شغفه الصريح، أرادت البوح بسرها؛ لكن تاهت منها الكلمات، كأنما لم تعرف كيف تبدأ في مفاتحته، وكيف تستطيع ذلك دون تمهيد مسبق عن هذه المسألة الحرجة؟ أتراه سيفرح حين يعلم؟ أم سيكون الأمر سيان لديه؟ لم تكتمل فرصتها بسبب مجيء ماهر وشقيقته، والطبيبة ريم. تطلعت إلى ثلاثتهم في سرورٍ، وبدأت ذراع تميم ترتخي قليلاً عن خصرها، ركزت بصرها على الأول وهو يخاطبها مبتسمًا في وقارٍ:.
    -مبروك يا فيروزة.
    ردت مبتسمة ابتسامة رقيقة:
    - ماهر بيه، الله يبارك فيك.
    آه لو استطاعت أن ترى نيران الغيرة المشتعلة في حدقتي تميم، وغيره يناديها باسمها متجردًا من أي ألقاب! انتفض جسدها فجأة وقد شعرت بذراعه القوي تحاوط خصرها من جديد وتشدد عليه، ألصقها به، كأنما يعلن صراحة أنها صارت ملكيته، غير مستباح لغيره بالتجاوز معها، وقتئذ استدارت برأسها نصف استدارة لتنظر إلى وجهه من هذا القرب الشديد، رأت تعابيره مشدودة، ملامحه متجهمة، نظراته تكاد تلفظ حنقًا. ازدردت ريقها، ونظرت بتوترٍ مرة ثانية إلى ماهر وهو يخاطب زوجها:.
    -مبروك يا عريس.
    مد يده لمصافحته، فوجدت تميم يبادله المصافحة بقوةٍ وهو يقول، دون أن تخف وطأة ذراعه على خصرها:
    -الله يبارك فيك.
    سحب ماهر يده، وخاطبه بلهجةٍ محذرة:
    -خد بالك منها، ولو زعلتها في يوم هتلاقيني فوق دماغك.
    للعجب صارت ضمة تميم لها أكثر تملكًا، ضاعف من إلصاقها بجانبه، حتى شعرت أنها ستذوب بداخله، حتى أن صوته صار أكثر تحكمًا وهو يعقب عليه:
    -اطمن يا باشا، هي في أمان معايا.
    حاولت فيروزة أن تخفف من التوتر الذي استشعرته بالترحيب بطبيبتها:
    -دكتورة ريم، كنت هزعل لو ماجتيش.
    بالكاد نجحت في التخلص من حصار تميم لتتمكن من احتضان الأخيرة وهي تخبرها في محبةٍ:
    -مقدرش محضرش فرحك، ربنا يتمم بخير ويسعدكم.
    تراجعت قليلاً عنها، وردت في ابتسامة صغيرة:
    -يا رب.
    ثم تركزت عيناها على رفيقتها، وسألتها في نبرة مهتمة:
    -فينك يا علا؟ اتأخرتي ليه؟
    قبل أن تبدأ في الكلام، أجاب عنها ماهر ساخرًا:.
    -عقبال ما لبست، واتزوقت، مفكرة نفسها العروسة.
    هتفت شقيقته تحتج في حنقٍ:
    -دي كلها حاجة بسيطة، ونتجوز.
    رد عليها بنفس الطريقة المستخفة:
    -ده بعد ما تطلعي اللي فاضل من عين وجدي.
    استغلت ريم فرصة انشغال فيروزة بالحديث، لتدنو من تميم، وتستأذنه في جديةٍ:
    -ممكن كلمة يا أستاذ تميم على جمب.
    تحرك مبتعدًا معها لعدة خطوات وهو يقول:
    -اتفضلي يا دكتورة.
    توقفا عند مسافة معقولة، لا تثير الاسترابة عند النظر إليهما، واستطردت تُحادثه على عجالة، لا تخلو من جدية:
    -أنا عاوزاك النهاردة يكون بالك طويل مع فيروزة، مافيش داعي للاستعجال في أي حاجة، سيبها تاخد عليك الأول، ده هيكون أحسن ليك وليها.
    قال بوجهٍ متبرم قليلاً:
    -ربنا يسهل.
    واصلت التأكيد عليه بنفس النبرة المحذرة:.
    - فيروزة مرت بتجربة صعبة، ومحتاجة مننا كل الدعم عشان تستعيد ثقتها في نفسها، وخصوصًا إنها بتعيد تجربة الزواج معاك.
    لم يستسغ تلميحها المتواري بانسياقه وراء شهواته –كحيوانٍ جائع يستعد لالتهام فريسته- بدلاً من احتوائها بالعطف والحنان، جَمُدت تعابيره، ورد في جديةٍ تامة:
    -يا دكتورة محدش هيخاف عليها زيي.
    ابتسمت في لباقةٍ وهي تواصل الكلام:
    -أكيد، وده مخليني مطمنة، بس برضوه ماتستعجلش.
    بزفيرٍ سريع قال وهو يدير رأسه نحو فيروزة:
    -إن شاءالله.
    رأت الأخيرة ملامحه المزعوجة، فتحركت في تؤدة نحوهما وهي تتساءل بنظرةٍ حيرى، مستشعرة وجود خطب ما:
    -في حاجة يا دكتورة؟
    ردت نافية بنفس الوجه الهادئ:
    -لأ، ده أنا بوصيه عليكي.
    ساروتها الشكوك قليلاً مع محاولتها المكشوفة للهروب من نظراتها المتفرسة، انتبهت مرة أخرى ل تميم وهو يدعو ضيوفهما للمكوث:
    -اتفضلوا يا جماعة، شرفونا جوا.
    استعدت للذهاب خلفهم؛ لكنه استوقفها بإعادة إحكام الطوق القوي حول خصرها، تسمرت في مكانها، واستدارت ناظرة إليه باستغرابٍ حائر، فرمقها بنظرة تحوي حنان الدنيا ودفئها المغري، التفت ذراعه الأخرى حول ظهرها، وقربها برفقٍ إليه، لتستند بكفيها تلقائيًا على صدره، كأنما تمنع نفسها من الالتصاق به، أسبل عينيه نحوها ثم رجاها بخفوتٍ:
    -خليكي جمبي.
    سألته في تشككٍ بدأ يجوس بداخلها:.
    -في حاجة حصلت وإنت مش عاوز تقولي؟ طب دكتورة ريم قالتلك على حاجة؟
    رد نافيًا في استرابة:
    -لا أبدًا، دي بتوصيني عليكي.
    ابتسمت قليلاً، وهزت رأسها في تفهمٍ قبل أن تحاول المناص منه، لم يفلتها، وأصر على بقائهما هكذا، فتحرجت كثيرًا من وقفتهما الرومانسية، وهمست في ارتباكٍ:
    -ماينفعش كده.
    غازلها بنظراته الجريئة، وهتف في حرارةٍ وهو يزيد من ضمه:
    -هو إيه اللي ماينفعش؟ إنتي مراتي دلوقتي.
    تلوت بجسدها محاولة الفكاك منه، ووجهها ينطق بحمرة قوية، تلعثمت وهي تردد:
    -الناس بتبص علينا.
    لم يكترث لكائنٍ من كان، وراح يقول في تحدٍ مستمتع:
    -مالناش دعوة بيهم...
    من موضع يديها استشعرت تسارع نبضاته، كأنها تعترف لها بما يعجز اللسان عن قوله، انتفض ما بين ضلوعها، وذاب كليًا وهو مستمرٌ في مداعبة أذنها بحلو كلامه:
    -وبعدين هو حد يبقى في حضنه القمر، ويسيبه؟ ده يبقى أهبل!
    تراجع كلاهما عن بعضهما البعض في حرجٍ شديد، وقد صدح من خلفهما صوتًا معنفًا:
    -خلي جو الغراميات ده بعدين يا سي روميو.
    أطرق تميم رأسه في تحرجٍ، وقال بصوتٍ شبه متقطع مبررًا وقفته العبثية مع زوجته:
    -يابا ده أنا آ...
    قاطعه في تشددٍ:
    -يالا قدامي، ليكم بيت ترغوا فيه براحتكم.
    هز رأسه في إذعانٍ كامل، وأشار لزوجته بيده لتتأبط ذراعه، ثم مشى معها متصنعًا الجدية، قبل أن يميل برأسه عليها ليخبرها بصوتٍ خافت منزعج، وهو يراها تحاول بجهدٍ إخفاء ضحكاتها المرحة:
    -مش بقولك أنا محظوظ، أوي...!
×
×
  • انشاء جديد...